للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: "بَلِ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ وَنُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَأَهُ مَاءً، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَاسْتَحْسَنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ، وَفَعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، وَأَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا وَمَلَأَهُ مَاءً١. وَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَرِيشٌ يَكُونُ فِيهِ٢، وَمَشَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ، فَأَرَى أَصْحَابَهُ مَصَارِعَ قُرَيْشٍ، يَقُولُ: "هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ". قَالَ: فَمَا عَدَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرَعُهُ ذَلِكَ٣.

ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فَحَزَرُوا الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ فِيهِمْ فَارِسَانِ: الْمِقْدَادُ وَالزُّبَيْرُ. وَأَرَادَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قُرَيْشًا عَلَى الرُّجُوعِ فَأَبَوْا. وَكَانَ الَّذِي صَمَّمَ عَلَى الْقِتَالِ أَبُو جَهْلٍ. فَارْتَحَلُوا مِنَ الْغَدِ قَاصِدِينَ نَحْوَ الْمَاءِ. فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقْبِلِينَ قَالَ: "اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَ فَنَصْرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أحنهم الغداة" ٤. وقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ رَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ: "إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوه يَرْشُدُوا" ٥.

وَكَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ الْغِفَارِيُّ بَعَثَ إِلَى قُرَيْشٍ، حِينَ مَرُّوا بِهِ، بِجَزَائِرَ هَدِيَّةٍ، وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نُمِدَّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا. فأَرَسْلَوُا إِلَيْهِ: أَنْ وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي يَنْبَغِي، فَلَعَمْرِي لَئِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَمَا بِنَا ضَعْفٌ، وَإِنْ كُنَّا إنما نُقَاتِلُ اللَّهَ، كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ، مَا لِأَحَدٍ بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ.

فَلَمَّا نَزَل النَّاسُ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ


١ "ضعيف": رواه ابن هشام "٢/ ٦٦" عن ابن إسحاق، قال: "فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب" ... قال الشيخ الألباني -رحمه الله- في تخريجه لأحاديث "فقه السيرة" للغزالي "٢٤١": "وهذا سند ضعيف لجهالة الواسطة بين ابن إسحاق والرجال من بني سلمة".
٢ قصة العريش لها أصل.
٣ رواه مسلم من حديث أنس، وفيه: قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعني بعد استشارة أصحابه في القتال: $"هذا مصرع فلان". قال: ويضع يده على الأرض ههنا وههنا. قال: فما ماط أحدهم مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
٤ أخرجه البخاري في "المغازي" "٣٩٥٣", ومسلم في "الجهاد والسير" "١٣٨٣".
٥ "إسناده صحيح": أخرجه أحمد في "المسند" "١/ ١١٧".