وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا؛ وَأَيْنَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ؟ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، فَإِنَّهُ أَصْغَرُ من رَسُول اللَّه -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ؛ وَأَيْنَ كَانَ بِلَالٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَشْتَرِهِ إِلَّا بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَلَمْ يَكُنْ وُلِدَ بَعْدُ؛ وَأَيْضًا، فَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَمِيلَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ؟ لِأَنَّ ظِلَّ الْغَمَامَةِ يُعْدِمُ فَيْءَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَزَلَ تَحْتَهَا، وَلَمْ نَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ أَبَا طَالِبٍ قَطُّ بِقَوْلِ الرَّاهِبِ، وَلَا تَذَاكَرَتْهُ قُرَيْشٌ، وَلَا حَكَتْهُ أُولَئِكَ الْأَشْيَاخُ، مَعَ تَوَفُّرِ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ عَلَى حِكَايَةِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ لَاشْتَهَرَ بَيْنَهُمْ أَيَّمَا اشْتِهَارٍ، وَلَبَقِيَ عِنْدَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِسٌّ مِنَ النُّبُوَّةِ؛ وَلَمَا أَنْكَرَ مَجِيءَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، أَوَّلًا بِغَارِ حِرَاءٍ وَأَتَى خَدِيجَةَ خَائِفًا عَلَى عَقْلِهِ، وَلَمَا ذَهَبَ إِلَى شَوَاهِقِ الْجِبَالِ لِيَرْمِيَ نَفْسَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَيْضًا فَلَوْ أَثَّرَ هَذَا الْخَوْفُ فِي أَبِي طَالِبٍ وَرَدَّهُ، كَيْفَ كَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنَ السَّفَرِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا لِخَدِيجَةَ؟
وَفِي الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ مُنْكَرَةٌ، تشبه ألفاظ الطّرقيّة، مع أنّ ابن عائد قَدْ رَوَى مَعْنَاهُ فِي مَغَازِيهِ دُونَ قَوْلِهِ: "وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا" إِلَى آخِرِهِ، فَقَالَ: ثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ فِي "السِّيرَةِ"١: إِنَّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا فِي رَكْبٍ، وَمَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ غُلَامٌ، فلما نزلوا بصرى، وبها بحيرى الرَّاهِبُ فِي صَوْمَعَتِهِ، وَكَانَ أَعْلَمَ أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ؛ وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصَّوْمَعَةِ قَطُّ رَاهِبٌ يَصِيرُ إِلَيْهِ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهِمْ فِيمَا يَزْعُمُونَ، يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ؛ قَالَ: فَنَزَلُوا قريبًا من الصّومعة، فصنع بحيرى طَعَامًا، وَذَلِكَ فِيمَا يَزْعُمُونَ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ حِينَ أَقْبَلُوا، وَغَمَامَةٍ تُظِلُّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، فنزل بظلّ شجرة، فنزل بحيرى مِنْ صَوْمَعَتِهِ، وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ الطَّعَامِ فَصُنِعَ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَجَاءُوهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: يا بحيرى مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا، فَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّكُمْ ضَيْفٌ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أُكْرِمَكُمْ، فَاجْتَمَعُوا، وَتَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لصغره في رحالهم. فلما نظر بحيرى فِيهِمْ وَلَمْ يَرَهُ قَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لَا يَتَخَلَّفْ عَنْ طَعَامِي هَذَا أَحَدٌ.
قَالُوا: مَا تَخَلَّفَ أَحَدٌ إلَّا غُلَامٌ هُوَ أَحْدَثُ القوم سنًّا.
١ انظر "سيرة ابن هشام" "١/ ١٨٦-١٨٨".
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute