للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثُمَّ قَالَ: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حُرُمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها". ثُمَّ زجرها فوَثَبَتْ بِهِ. قَالَ: فَعَدل حتى نزل بأقصى الحُدَيْبية عَلَى ثمد قليل الماء، نما يتبرّضه النّاس تبرُّضًا١، فلم يُلَبِّثْه النّاس أنْ نَزَحُوه، فشكوا إِلَى رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العطش, فانتزع سهمًا من كِنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله مازال يجيش لهم بالرّيّ حتى صدروا عَنْهُ.

فبينما هُمْ كذلك إذ جاءه بُدَيْل بْن وَرْقاء الخُزَاعي فِي نفرٍ من خُزاعة، وكانوا عَيْبَة نصح٢ لرَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أهل تِهَامة. فقال: إنّي تركت كعبَ بْن لُؤَيّ وعامر بْن لُؤَيّ نزلوا أعداد مياهِ الحُدَيبية، معهم العُوذ المطافيل، وهم مُقاتلوك وصادُّوك عَنِ البيت. قَالَ رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنا لم نجئ لقتال أحدٍ ولكّنا جئنا معتمرين، وإنّ قُريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرَّتْ بهم فإنْ شاءوا مادَدْتُهُم مدَّةً ويُخَلُّوا بيني وبين النّاس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فِيهِ النّاس فعلوا، ولا فقد جَمُّوا ٣، وإنْ هُمْ أبَوا فَوَالذي نفسي بيده لأقاتلّنهم عَلَى أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ٤ أو ليُنْفِذَنَّ الله أمْرَه". فقال بُدَيْلٌ: سأبلّغهم ما تَقُولُ. فانطلق حتى أتى قُرَيْشًا فقال: إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يَقْولُ قولًا، فإنْ شئتم نعرضه عليكم فعلْنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا فِي أن تحدّثنا عَنْهُ بشيء. وقال ذَوُو الرأي منهم: هاتِ ما سَمِعْتُهُ. قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقْولُ كذا وكذا. فحدّثهم بما قَالَ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فقام عُرْوة بْن مَسْعُود الثَّقَفي فقال: أي قوم أَلَسْتُم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قَالُوا: بلى. قَالَ: هَلْ تتّهموني؟ قَالُوا: لا. قَالَ: ألستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عُكاظ فلما بلّحُوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قَالُوا: بلى. قَالَ: فإنّ هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلّم النَّبِيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال نحوًا من قوله لبُدَيْلٍ. فقال: أي مُحَمَّد أرأيت إنْ استأصلت قومَك هَلْ سَمِعْتُ بأحدٍ من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإنْ تكن الأخرى فَوَالله إني لأرى وجوهًا وأرى أَوْباشا من النّاس خلفًا أن يفروا ويدعوك. فقال له


١ يتبرضه الناس تبرضًا؛ أي: يأخذونه قليلا قليلا.
٢ عيبة نصح؛ أي خاصته وموضع سره.
٣ جموا: استرحوا من جهد الحرب.
٤ السالفة: صفحة العنق.