للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ.

لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مَغْفِرَةً ... وَضَرْبَةً ذَاتَ فَرْغٍ١ تَقْذِفُ الزَّبَدَا٢

أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا

حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي٣ ... يَا أَرْشَدَ اللَّهِ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا٤

ثُمَّ إِنَّهُ وَدَّعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ:

فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا

إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نَافِلَةً ... وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي ثَابِتُ الْبَصَرِ

أَنْتَ الرَّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمُ نَوَافِلَهُ ... وَالْوَجْهَ مِنْهُ فَقَدْ أَزْرَى بِهِ الْقَدَرُ

ثُمَّ خَرَجَ الْقَوْمُ حَتَّى نَزَلُوا مَعَانَ٥، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ هِرَقْلَ قَدْ نَزَلَ مَآبَ فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ، فَأَقَامُوا بِمَعَانَ يَوْمَيْنِ، وَقَالُوا: نَبْعَثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِخَبَرِهِ. فَشَجَّعَ النَّاسُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، وَاللَّهِ إِنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ لَلَّتِي خَرَجْتُمْ لَهَا تَطْلُبُونَ، الشَّهَادَةَ. وَلا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلا كَثْرَةٍ، وَإِنَّمَا نُقَاتِلُهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَإِنْ يُظْهِرْنَا اللَّهُ بِهِ فَرُبَّمَا فَعَلَ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَلَيْسَتْ بِشَرِّ الْمَنْزِلَتَيْنِ. فَقَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَ فَانْشَمَرَ النَّاسُ، وَهُمْ ثَلاثَةُ آلافٍ، حَتَّى لَقُوا جُمُوعَ الرُّومِ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا مَشَارِفُ، ثُمَّ انْحَازَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى مُؤْتَةَ، قَرْيَةٍ فَوْقَ الْحِسَاءِ. وَكَانُوا ثَلاثَةَ آلافٍ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ شَهِدْتُ مُؤْتَةَ، فَلَمَّا رَأَيْنَا الْمُشْرِكِينَ رَأَيْنَا مَا لا قِبَلَ لأَحَدٍ بِهِ مِنَ الْعُدَّةِ وَالسِّلاحِ وَالْكَرَاعِ وَالدِّيبَاجِ وَالذَّهَبِ. فَبَرِقَ بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ: مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كَأَنَّكَ تَرَى جُمُوعًا كَثِيرَةً؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا بدرًا، إنا لم ننصر بالكثرة.


١ ذات فرع: يريد طعنة واسعة.
٢ الزبد: أصله ما يعلو الماء إذا غلا، وأراد هنا ما يعلو الدم الذي ينفجر من الطعنة.
٣ الجدث: القبر.
٤ قال الهيثمي في "المجمع" "٦/ ١٥٧، ١٥٨": "رواه الطبراني، ورجاله ثقات إلى عروة".
٥ مدينة في طرف بادية الشام تلقاء الحجاز من نواحي البلقاء. "معجم البلدان" "٥/ ١٥٣".