للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فَمَنْ كَانَ هَذَا بَدْأَهُ وَهَذِهِ أَحْوَالَهُ فَمِنْ أَيْنَ لَهُ الْبَطَرُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ، وَهُوَ عَلَى التَّحْقِيقِ أَضْعَفُ الضُّعَفَاءِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ عَادَةُ الْخَسِيسِ إِذَا رُفِعَ مِنْ خِسَّتِهِ شَمَخَ بِأَنْفِهِ وَتَعَظَّمَ، وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ خِسَّةِ أَوَّلِهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ.

نَعَمْ، لَوْ أَكْمَلَهُ وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَهُ وَأَدَامَ لَهُ الْوُجُودَ بِاخْتِيَارِهِ لَجَازَ أَنْ يَطْغَى وَيَنْسَى الْمَبْدَأَ وَالْمُنْتَهَى، وَلَكِنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِ فِي دَوَامِ وُجُودِهِ الْأَمْرَاضَ وَالْآفَاتِ يَهْدِمُ الْبَعْضُ مِنْ أَجْزَائِهِ الْبَعْضَ شَاءَ أَمْ أَبَى، فَيَجُوعُ كُرْهًا وَيَعْطَشُ كُرْهًا، وَيَمْرَضُ كُرْهًا، وَيَمُوتُ كُرْهًا، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا ضَرًّا، وَلَا خَيْرًا، وَلَا شَرًّا.

يُرِيدُ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ فَيَجْهَلُهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّيْءَ فَيَنْسَاهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْسَى الشَّيْءَ وَيَغْفُلُ عَنْهُ فَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ، وَلَا يَأْمَنُ فِي لَحْظَةٍ مِنْ لَيْلِهِ أَوْ نَهَارِهِ أَنْ يُسْلَبَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ، وَتُفَلَّجَ أَعْضَاؤُهُ، وَيُخْتَلَسَ عَقْلُهُ، وَيُخْتَطَفَ رُوحُهُ، وَيُسْلَبَ جَمِيعَ مَا يَهْوَاهُ فِي دُنْيَاهُ، فَهُوَ مُضْطَرٌّ ذَلِيلٌ، إِنْ تُرِكَ بَقِيَ وَإِنِ اخْتُطِفَ فَنِيَ، عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ نَفْسِهِ، وَلَا شَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَذَلُّ مِنْهُ لَوْ عَرَفَ نَفْسَهُ، وَأَنَّى يَلِيقُ الْكِبْرُ بِهِ لَوْلَا جَهْلُهُ، فَهَذَا وَسَطُ أَحْوَالِهِ فَلْيَتَأَمَّلْهُ. وَأَمَّا آخِرُهُ فَهُوَ الْمَوْتُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عَبَسَ: ٢١ ٢٢] وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُسْلَبُ رُوحَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَعِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ وَحِسَّهُ وَإِدْرَاكَهُ وَحَرَكَتَهُ فَيَعُودُ جَمَادًا كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ، لَا يَبْقَى إِلَّا شَكْلُ أَعْضَائِهِ وَصُورَتِهِ، لَا حِسَّ فِيهِ، وَلَا حَرَكَةَ، ثُمَّ يُوضَعُ فِي التُّرَابِ فَيَصِيرُ جِيفَةً مُنْتِنَةً قَذِرَةً، ثُمَّ تَبْلَى أَعْضَاؤُهُ، وَتَتَفَتَّتُ أَجْزَاؤُهُ، وَتَنْخُرُ عِظَامُهُ، وَيَأْكُلُ الدُّودُ أَجْزَاءَهُ فَيَصِيرُ رَوْثًا فِي أَجْوَافِ الدِّيدَانِ وَيَكُونُ جِيفَةً يَهْرُبُ مِنْهُ الْحَيَوَانُ، وَيَسْتَقْذِرُهُ كُلُّ إِنْسَانٍ وَيَهْرُبُ مِنْهُ لِشِدَّةِ الْإِنْتَانِ، وَلَيْتَهُ بَقِيَ كَذَلِكَ فَمَا أَحْسَنَهُ لَوْ تُرِكَ، لَا، بَلْ يُحْيِيهِ بَعْدَ طُولِ الْبِلَى لِيُقَاسِيَ شَدِيدَ الْبَلَا، فَيَخْرُجُ مِنْ قَبْرِهِ بَعْدَ جَمْعِ أَجْزَائِهِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَيَخْرُجُ إِلَى أَهْوَالِ الْقِيَامَةِ فَيَنْظُرُ إِلَى قِيَامَةٍ قَائِمَةٍ، وَسَمَاءٍ مُشَقَّقَةٍ مُمَزَّقَةٍ، وَأَرْضٍ مُبَدَّلَةٍ، وَجِبَالٍ مُسَيَّرَةٍ، وَنُجُومٍ مُنْكَدِرَةٍ، وَشَمْسٍ مُنْكَسِفَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَلَائِكَةٍ غِلَاظٍ شِدَادٍ، وَجَهَنَّمَ تَزْفِرُ، وَجَنَّةٍ يَنْظُرُ إِلَيْهَا الْمُجْرِمُ فَيَتَحَسَّرُ، وَيَرَى صَحَائِفَ مَنْشُورَةً، فَيُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ كِتَابَكَ، فَيَقُولُ: «وَمَا هُوَ» ؟ فَيُقَالُ: كَانَ قَدْ وُكِّلَ بِكَ فِي حَيَاتِكَ الَّتِي كُنْتَ تَتَكَبَّرُ بِنَعِيمِهَا وَتَفْتَخِرُ بِأَسْبَابِهَا مَلَكَانِ رَقِيبَانِ يَكْتُبَانِ عَلَيْكَ مَا تَنْطِقُ بِهِ أَوْ تَعْمَلُهُ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، قَدْ نَسِيتَ ذَلِكَ وَأَحْصَاهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، فَهَلُمَّ إِلَى الْحِسَابِ، وَاسْتَعِدَّ لِلْجَوَابِ، أَوْ تُسَاقُ إِلَى دَارِ الْعَذَابِ، فَيَنْقَطِعُ قَلْبُهُ فَزَعًا مِنْ هَوْلِ هَذَا الْخِطَابِ قَبْلَ أَنْ تَنْتَشِرَ الصَّحِيفَةُ وَيُشَاهِدَ مَا فِيهَا مِنْ مَخَازِيهِ، فَإِذَا شَاهَدَهُ قَالَ: (يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) [الْكَهْفِ: ٤٩] فَهَذَا آخِرُ أَمْرِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عَبَسَ: ٢٢] فَمَا لِمَنْ هَذَا حَالُهُ وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّعَظُّمُ؟ ، بَلْ مَا لَهُ وَلِلْفَرَحِ فَضْلًا عَنِ الْبَطَرِ؟ فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ أَوَّلُ حَالِهِ وَوَسَطُهُ، وَلَوْ ظَهَرَ آخِرُهُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى رُبَّمَا اخْتَارَ أَنْ يَصِيرَ مَعَ الْبَهَائِمِ تُرَابًا، وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا يَسْمَعُ خِطَابًا أَوْ يَلْقَى عَذَابًا. فَمَنْ هَذَا حَالُهُ فِي الْعَاقِبَةِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ عَلَى شَكٍّ مِنَ الْعَفْوِ فَكَيْفَ يَفْرَحُ وَيَبْطَرُ؟ وَكَيْفَ يَتَكَبَّرُ وَيَتَجَبَّرُ؟ حَقًّا يَكْفِيهِ ذَلِكَ حُزْنًا وَخَوْفًا وَإِشْفَاقًا وَمَهَانَةً وَذُلًّا. فَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ الْعِلْمِيُّ الْقَامِعُ لِأَصْلِ الْكِبْرِ.

وَأَمَّا الْعِلَاجُ الْعَمَلِيُّ: فَهُوَ التَّوَاضُعُ لِلَّهِ بِالْفِعْلِ، وَلِسَائِرِ الْخَلْقِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَخْلَاقِ

<<  <   >  >>