للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الْمُتَوَاضِعِينَ كَمَا وَصَفْنَاهُ مِنْ شَمَائِلِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ أَحْوَالِ الصَّالِحِينَ، وَلَا يَتِمُّ التَّوَاضُعُ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ الْعَرَبُ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْإِيمَانِ وَبِالصَّلَاةِ جَمِيعًا، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ، وَفِي الصَّلَاةِ أَسْرَارٌ لِأَجْلِهَا كَانَتْ عِمَادًا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَا فِيهَا مِنَ التَّوَاضُعِ بِالْمُثُولِ قَائِمًا وَبِالرُّكُوعِ وَبِالسُّجُودِ، وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ قَدِيمًا يَأْنَفُونَ مِنَ الِانْحِنَاءِ فَكَانَ يَسْقُطُ مِنْ يَدِ الْوَاحِدِ سَوْطُهُ فَلَا يَنْحَنِي لِأَخْذِهِ، وَيَنْقَطِعُ شِرَاكُ نَعْلِهِ فَلَا يُنَكِّسُ رَأْسَهُ لِإِصْلَاحِهِ، فَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ عِنْدَهُمْ هُوَ مُنْتَهَى الذِّلَّةِ وَالضَّعَةِ أُمِرُوا بِهِ لِتَنْكَسِرَ بِذَلِكَ خُيَلَاؤُهُمْ وَيَزُولَ كِبْرُهُمْ وَيَسْتَقِرَّ التَّوَاضُعُ فِي قُلُوبِهِمْ. وَبِهِ أُمِرَ سَائِرُ الْخَلْقِ.

الْمَقَامُ الثَّانِي: فِيمَا يَعْرِضُ مِنَ التَّكَبُّرِ بِالْأَسْبَابِ السَّبْعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ:

ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ ذَمِّ الْجَاهِ أَنَّ الْكَمَالَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، فَأَمَّا مَا عَدَاهُ مِمَّا يَفْنَى بِالْمَوْتِ فَكَمَالٌ وَهْمِيٌّ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ طَرِيقَ الْعِلَاجِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ فِي جَمِيعِ أَسْبَابِهِ السَّبْعَةِ:

الْأَوَّلُ النَّسَبُ: فَمَنْ يَعْتَرِيهِ الْكِبْرُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ فَلْيُدَاوِ قَلْبَهُ بِمَعْرِفَةِ أَنَّ هَذَا جَهْلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَزَّزَ بِكَمَالِ غَيْرِهِ، وَمَنْ كَانَ خَسِيسًا فَمِنْ أَيْنَ تُجْبَرُ خِسَّتُهُ بِكَمَالِ غَيْرِهِ وَبِمَعْرِفَةِ نَسَبِهِ الْحَقِيقِيِّ أَعْنِي أَبَاهُ وَجَدَّهُ، فَإِنَّ أَبَاهُ الْقَرِيبَ نُطْفَةٌ قَذِرَةٌ، وَجَدَّهُ الْبَعِيدَ تُرَابٌ، وَقَدْ عَرَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَسَبَهُ فَقَالَ (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [السَّجْدَةِ: ٧، ٨] فَإِذَا كَانَ أَصْلُهُ مِنَ التُّرَابِ وَفَصْلُهُ مِنَ النُّطْفَةِ فَمِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ الرِّفْعَةُ؟ فَهَذَا هُوَ النَّسَبُ الْحَقِيقِيُّ لِلْإِنْسَانِ، وَمَنْ عَرَفَهُ لَا يَتَكَبَّرُ بِالنَّسَبِ.

الثَّانِي الْكِبْرُ بِالْجَمَالِ: وَدَوَاؤُهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى بَاطِنِهِ نَظَرَ الْعُقَلَاءِ، وَلَا يَنْظُرَ إِلَى الظَّاهِرِ نَظَرَ الْبَهَائِمِ، وَمَهْمَا نَظَرَ إِلَى بَاطِنِهِ رَأَى مِنَ الْقَبَائِحِ مَا يُكَدِّرُ عَلَيْهِ تَعَزُّزَهُ بِالْجَمَالِ، إِذْ خُلِقَ مِنْ أَقْذَارٍ وَوُكِّلَ بِهِ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ الْأَقْذَارُ، وَسَيَمُوتُ فَيَصِيرُ جِيفَةً أَقْذَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَقْذَارِ، وَجَمَالُهُ لَا بَقَاءَ لَهُ، بَلْ هُوَ فِي كُلِّ حِينٍ يَتَصَوَّرُ أَنْ يَزُولَ بِمَرَضٍ أَوْ سَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ، فَكَمْ مِنْ وُجُوهٍ جَمِيلَةٍ قَدْ سَمُجَتْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ. فَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ تَنْزِعُ مِنَ الْقَلْبِ دَاءَ الْكِبْرِ بِالْجَمَالِ لِمَنْ أَكْثَرَ تَأَمُّلَهَا.

الثَّالِثُ الْكِبْرُ بِالْقُوَّةِ: وَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْلَمَ مَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَوَجَّعَ عِرْقٌ وَاحِدٌ فِي يَدِهِ لَصَارَ أَعْجَزَ مِنْ كُلِّ عَاجِزٍ، أَوْ أَنَّ شَوْكَةً لَوْ دَخَلَتْ فِي رِجْلِهِ لَأَعْجَزَتْهُ، وَأَنَّ حُمَّى يَوْمٍ تُحَلِّلُ مِنْ قُوَّتِهِ مَا لَا يَنْجَبِرُ فِي مُدَّةٍ ; فَمَنْ لَا يُطِيقُ شَوْكَةً، وَلَا يُقَاوِمُ بَقَّةً فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْتَخِرَ بِقُوَّتِهِ. ثُمَّ إِنْ قَوِيَ الْإِنْسَانُ فَلَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حِمَارٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ فِيلٍ أَوْ جَمَلٍ، وَأَيُّ افْتِخَارٍ فِي صِفَةٍ يَسْبِقُكَ بِهَا الْبَهَائِمُ.

السَّبَبُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ الْغِنَى وَكَثْرَةُ الْمَالِ: وَفِي مَعْنَاهُ كَثْرَةُ الْأَتْبَاعِ وَالْأَنْصَارِ، وَالتَّكَبُّرُ بِالْمَنَاصِبِ وَالْوِلَايَاتِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَكَبُّرٌ بِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ، فَلَوْ ذَهَبَ مَالُهُ أَوِ احْتَرَقَتْ دَارُهُ لَعَادَ ذَلِيلًا، وَكَمْ فِي الْيَهُودِ مَنْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْغِنَى وَالثَّرْوَةِ وَالتَّجَمُّلِ، فَأُفٍّ لِشَرَفٍ يَسْبِقُهُ بِهِ يَهُودِيٌّ، أَوْ يَأْخُذُهُ سَارِقٌ فِي لَحْظَةٍ فَيَعُودُ ذَلِيلًا مُفْلِسًا.

<<  <   >  >>