أخرج البخاري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: $"كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة".
روعة التصوير الأدبي في بلاغة التعبير بالأمر في هذا الحديث الشريف، حين عبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الأكل والشرب واللبس والتصدق بفعل الأمر على سبيل الوجوب، أي لا بد منه للإنسان، ولا يستطيع أن يستغني عنها كلها؛ لأن الامتناع عنها يؤدي إلى الهلاك، فحرم الله عليه التهلكة، قال تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} وقال أيضًا: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، كما يجب أن يكون قوي الجسد ليقوى على طاعة الله فيما أمر ونهى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، كما يجب أن يكون قويًا عزيزًا:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وكما يجب على المؤمن أن يتصدق مما زاد عن ذلك لتحقيق غايتين شريفتين؛ الأولى: استحقاقه الجنة في الآخرة، والثانية: في الدنيا وهي أن يحفظ نفسه من فتنة المال ومن اللهو واللعب والزينة والإسراف والتفاخر، وترد عنه شرَّ المال من الحسد والحقد والبغضاء من المحروم والحاسد، مصداقًا لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي الحديث الشريف: "ليس لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت".
روعة التصوير الفني في بلاغة التعبير بعدم الإسراف ليحث على التوسط والاعتدال في الأوامر السابقة من المأكل والمشرب والملبس والتصدق، وقيدها بذلك، وانتقى لها من بين الأساليب العربية "عدم الإسراف" لتتلاءم مع التصرفات البشرية مُستمدًا بلاغته النبوية الشريفة من بلاغة القرآن الكريم في قوله تعالى: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا