له ما تقدم من ذنبه وما تأخر -عليه الصلاة والسلام-، ومع هذا قام هذا القيام، وجاهد في الله حق جهاده، وأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، وحصل له من الشدائد ما حصل، ومع ذلك حينما قيل له: تفعل هذا وأنت غفر لك، ترجو المغفرة؟! ((أفلا أكون عبداً شكوراً)) الله -جل وعلا- ينعم عليك بجلائل النعم، ودقائق النعم، النعم التي لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك تبخل على نفسك بالذكر الذي لا يكلفك شيئاً، ولو أعملت لسانك ليل نهار بذكر الله، ولهجت بشكره، ما استطعت أن تفي شكر نعمة من نعم الله -جل وعلا-، فكيف بجميع نعمه؟ {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} [(١٨) سورة النحل] فمثل هذا يحتاج إلى شكر، والشكر يحتاج إلى بذل من النفس.
الصحابة -رضوان الله عليهم- ضربوا أروع الأمثلة في علو الهمة والعطاء والبذل لهذا الدين، ثم سار على طريقتهم والكل يهتدون ويقتدون بالأسوة والقدوة -عليه الصلاة والسلام-، جاء بعدهم التابعون والأئمة وحصل منهم ما حصل, تقرؤون في سيرهم الأعاجيب، تقرؤون الأعاجيب في بذلهم وتضحياتهم في سبيل دينهم، في نشر العلم، وفي التعليم والعمل.
والإنسان يقرأ في هذه الكتب في سير الأئمة يظنه ضرب من الخيال، إنما يساق للتشجيع فقط، وإلا ما له حقيقة، أدركنا من شيوخنا من لا يرتاح في يومه ولا ليله ولا أربع ساعات، ولا ثلاث ساعات، والبقية كلها بذل وعلم وتعليم، وكل باب من أبواب الخير له فيه سهم، وما زالت الأمة فيها خير، والخير في أمة محمد إلى قيام الساعة -عليه الصلاة والسلام- موجود، يقول الإمام الشافعي:
إذا هجع النوام أسبلت عبرة ... وأنشدت بيتاً وهو من ألطف الشعرِ
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا علم وتحسب من عمري