للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَبَيْنَا دَاوُدُ الطَّائِيُّ فِي سَطْحِ دَارِهِ فِي لَيْلَةٍ قَمْرَاءَ تَفَكَّرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَوَقَعَ إِلَى سَطْحِ جَارِهِ , فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: مَا عَلِمْتُ بِذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَكُّرَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ , وَالثَّانِي بِالْمَعْبُودِ جَلَّ جَلالُهُ.

فَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَبْدِ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَكَّرَ: هَلْ هُوَ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَمْ لا؟ فَإِنْ رَأَى زَلَّةً تَدَارَكَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ ثُمَّ يَتَفَكَّرَ فِي نَقْلِ الأَعْضَاءِ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَى الطَّاعَاتِ , فَيَجْعَلَ شُغُلَ الْعَيْنِ الْعَبْرَةَ , وَشُغُلَ اللِّسَانِ الذِّكْرَ , وَكَذَلِكَ سَائِرَ الأَعْضَاءِ.

ثُمَّ يَتَفَكَّرَ فِي الطَّاعَاتِ لِيَقُومَ بِوَاجِبِهَا وَيُجْبِرَ وَاهِنَهَا , ثُمَّ يَتَفَكَّرَ فِي مُبَادَرَةِ الأَوْقَاتِ بِالنَّوَافِلِ طَلَبًا لِلأَرْبَاحِ , وَيَتَفَكَّرَ فِي قِصَرِ الْعُمْرِ فَيَنْتَبِهَ حَذِرًا أَنْ يَقُولَ غداً: " يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله ".

ثُمَّ يَتَفَكَّرَ فِي خِصَالِ بَاطِنِهِ فَيَقْمَعُ الْخِصَالَ الْمَذْمُومَةَ , كَالْكِبْرِ وَالْعَجَبِ وَالْبُخْلِ وَالْحَسَدِ , وَيَتَوَلَّى الْخِصَالَ الْمَحْمُودَةَ , كَالصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ وَالصَّبْرِ وَالْخَوْفِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ يَتَفَكَّرُ فِي زَوَالِ الدُّنْيَا فَيَرْفُضُهَا , وَفِي بَقَاءِ الآخِرَةِ فَيَعْمُرُهَا.

أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَقْبُرِيُّ , أَنْبَأَنَا عَاصِمُ بْنُ الْحَسَنِ , أَنْبَأَنَا بُشْرَانُ ابن صَفْوَانَ , أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُبَيْدٍ , قَالَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ , حَدَّثَنِي عَمَّارُ بْنُ

عُثْمَانَ , حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ , قَالَ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ الْمُنْذِرِ لإِخْوَانِهِ: زُورُوا الآخِرَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِقُلُوبِكُمْ , وَشَاهِدُوا الْمَوْتَ بِتَوَهُّمِكُمْ , وَتَوَسَّدُوا الْقُبُورَ بِفِكْرِكُمْ , وَاعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لا مَحَالَةَ , فَمُخْتَارٌ لِنَفْسِهِ مَا أَحَبَّ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالضَّرَرِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ.

وَأَمَّا الْمُتَعَلِّقُ بِالْمَعْبُودِ جَلَّ جَلالُهُ فَقَدْ مَنَعَ الشَّرْعَ مِنَ التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِفَاتِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السلام: " تفكروا في خلق الله ولا تتفكرو افي اللَّهِ , فَإِنَّكُمْ لَنْ تَقْدِرُوا قَدْرَهُ ".

<<  <  ج: ص:  >  >>