افترع ذروتَه، ولا تبوَّأ خلالَه، ولا تفيَّأ ظلالَه، فهو دُرَّةٌ لم تُثْقَب، ومُهرةٌ لم تُركَب، وللَّه درُّ القائل:
أعيا فحولَ العلم حَلُّ رموز ما … أبداه في الأبوابِ من أسرارِ
فازوا من الأوراقِ منه بما جَنَوا … منها، ولم يَصِلوا إلى الأثمار
ما زال بِكرًا لم يُفَضَّ خِتامُه … وعُراه ما حُلَّت عنِ (١) الأزرارِ
حُجِبَت معانيه التي أوراقُها … ضُرِبَت على الأبواب كالأستار
مِن كلِّ بابٍ حين يُفتَح بعضُه … يَنْهار منه العلمُ كالأنهارِ
لا غَرْوَ أن أمسى البخاريْ للورى … مثلَ البحارِ لمنشأ الأمطارِ
خضعتْ له الأقرانُ فيه إذ بدا … خرُّوا على الأذقان والأكوارِ
ولم أَزَلْ على ذلك مدَّةً من الزَّمان، حتَّى مضى عصر الشَّباب وبان، فانبعث الباعث إلى ذلك راغبًا، وقام خطيبًا لبنات أبكار الأفكار خاطبًا، فشمَّرتُ ذيل العزم عن ساق الحزم، وأتيتُ بيوت التَّصنيف من أبوابها، وقمتُ في جامع جوامع التَّأليف بين أئمَّته بمحرابها، وأطلقتُ لسان القلم في ساحات الحِكَم بعبارةٍ صريحةٍ واضحةٍ، وإشارةٍ قريبةٍ لائحةٍ، لخَّصتُها من كلامِ الكُبَرَاء، الذين رَقَتْ في معارج علوم هذا الشَّأن أفكارُهم، وإشاراتِ الألبَّاء الذين أنفقوا
بأن يدأبَ في إيوائها إليه وإدراجها لديه الجمُّ، ولخوفي من التَّطويل مع حرصي على الجمع والتَّحقيق أدمجت فيها تارةً وفصَّلتُ أخرى، ولم ألتفت إلى التَّنميق والتَّدقيق بل إلى التَّوفيق إذ ذلك أحرى، هذا مع جمودِ قريحتي وخمود فكرتي، وتبلبلِ بالي وتشتت أحوالي.