وقد اتَّفقت الأمَّة على تلقِّي «الصَّحيحين» بالقبول، واختُلِف في أيِّهما أرجح؟
الأولى في العدالة غير أنَّ الأولى جَمَعت مع الحفظ والإتقان طول الملازمة للزهري، حتى كان منهم من يلازمه سفرًا وحضرًا كالليث بن سعد والأوزاعي، وهؤلاء لم يلازموا الزهري إلَّا مدة يسيرة فلم يمارسوا حديثه، وكانوا في الإتقان دون الطبقة الأولى، كجعفر بن برقان وسفيان بن حسين السُّلمي وهم شرط مسلم.
والثالث: جماعة لزموا الزهري مثل الطبقة الأولى غير أنهم لم يسلموا من غوائل الجرح، فهم بين الردِّ والقبول، كمعاوية بن يحيى، وهم شرط أبي داود والنسائي.
والرابعة: قوم شاركوا الثالثة في الجرح والتعديل وتفردوا بقلَّة ممارستهم لحديث الزهري؛ لأنَّهم لم يلازموه كثيرًا وهم شرط الترمذي.
والخامسة: نفر من الضعفاء والمجهولين لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أن يخرج حديثهم إلَّا على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود فمن دونه، فأمَّا عند الشيخين فلا. انتهى.
لكن تقدم عن الجمهور أنَّ المتابعة والاستشهاد تكونُ بالضعيف الذي لم يشتدَّ ضعفُهُ، فلعلَّ مرادَ الحازمي ذلك.
قوله:(عَلَى تَلَقِّي الصَّحِيْحَيْنِ بِالقَبُوْل)؛ أي: لأنَّهما أصحُّ الكتبِ بعد القرآن الشريف، وما روي عن الشافعي من أنَّه قال: ما أعلمُ في الأرض كتابًا أكثر صوابًا من كتاب مالك، وفي رواية عنه: ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك. فذلك قبل وجودهما.
وما فيهما، ولو غير متواتر، مقطوع بصحته يفيد العلم القطعي؛ لتلقي الأمة له بالقبول اللازم منه إجماعهم على صحته، كما اختاره ابن الصلاح خلافًا لمن نفى ذلك محتجًّا بأنَّه لا يفيد إلَّا الظن وإنَّما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنَّه يجب عليهم العمل بالظن والظن قد يُخطئ.
قال ابن الصلاح: وقد كنت أميل إلى هذا، ثم بانَ لي أنَّ الذي اخترناه هو الصحيح؛ لأن ظنَّ مَن هو معصومٌ من الخطأ لا يُخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، وقد قال إمام الحرمين: لو حلفَ إنسانٌ بطلاق امرأته أنَّ ما في الصحيحين ممَّا حكما بصحته من قول النبي ﷺ لما ألزمته الطلاق؛ لإجماع علماء المسلمين على صحته. قال: ولو قال قائلٌ: إنَّه لا يحنث ولو لم يُجْمِعْ المسلمون على صحتهما؛ للشك في الحنث فإنَّه لو حلفَ بذلك في حديث ليس هذه صفته لم يحنث وإن كان رواته فُساقًا، فالجوابُ: أنَّ المُضاف إلى الإجماعِ هو القطع بعدم الحنث ظاهرًا وباطنًا، وأمَّا عند الشك فعدم الحنث محكوم به ظاهرًا مع احتمال وجوده باطنًا حتى تُستحب الرجعة. انتهى.