خالف أرجح منه حفظًا أو عددًا مخالفةً لا يمكن الجمع، ولا علَّةٍ
قال: ولم أرَ مع ذلك عن أحد من أئمَّة الحديث اشتراط نفي الشُّذوذ المعبَّر عنه بالمخالفة، وإنَّما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة، وأمثلة ذلك موجودة في الصَّحيحين وغيرهما.
فمن ذلك أنَّ مسلمًا أخرج حديث مالك عن الزُّهريِّ عن عروة عن عائشة في «الاضْطِّجَاع قَبْلَ رَكْعَتَي الفَجْرِ» وقد خالفَ مالكًا عامَّةُ أصحاب الزُّهريِّ، كمَعْمَر ويونس والأوزاعيِّ وغيرهم عن الزُّهريِّ فذكروا الاضطِّجاع بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصُّبح، ورَجَّحَ جمعٌ من الحفَّاظ روايتهم على رواية مالك، ومع ذلك فلم يتأخَّر أصحاب الصَّحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم، قال: فإن قيل: يلزم أن يسمَّى الحديث صحيحًا ولا يُعمل به، قلت: لا مانع من ذلك إذ ليس كل صحيحٍ يُعمل به بدليل المنسوخ.
قوله:(ولا عِلَّةَ) عطفٌ على شذوذ، والعلَّة: عبارة عن أمر قادح في الحديث؛ -أي: مؤثر في ردِّه- تظهر للنُّقَّاد عند جَمْع طُرق الحديث والبحث والتفتيش فيها؛ وذلك كإرسال الحديث الموصول إمَّا إرسالًا خفيًّا بأنْ يرويه عمَّن عاصره بلفظ (عن) ولم يسمع منه شيئًا، أو ظاهرًا بأن ينقل عن شيخ عُرف عند النَّاس عدم اجتماعه به والحال أنَّه لم يسمع عنه شيئًا أيضًا، فالإرسال هنا غير ما يأتي في تعريف المرسل من الأنواع فإنَّ صُورته أنَّه لم يوصل سنده، ولذلك قيَّدنا هنا بقولنا الموصول، وأيضًا فإنَّه لا فرقَ في كون الإرسال بهذا المعنى علَّةً قادحةً بين أن يكون ظاهرًا أو خفيًّا، ويسمَّى الأوَّل علَّة ظاهرة والثَّاني علَّة خفية، وكلٌّ منهما قادحٌ في صحَّة الحديث؛ لأنَّ الخفيَّة إذا أثَّرت مع خفائها فالظَّاهرة أولى، بخلاف الإرسال بالمعنى الآتي فلا يقدح منه إلَّا الخفيّ فقط، وذلك كإرسال سند متَّصل أو وقف سند مرفوع حيثُ لم يتعدَّد السَّند ولم يقوَ الاتِّصال أو الرَّفع على مقابله من الإرسال في الأوَّل والوقف في الثَّاني بكون راويه أضبط أو أكثر عددًا.
أما الظَّاهرة فهي كإرسال ووقف إذا قويا على مقابلهما بما ذكر وكان يقع اختلاف في تعيين ثقة من ثقتين كحديث:«الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا»، فإنَّ بعضهم رواه عن عمرو بن دينار، وبعضهم عن عبد الله بن دينار، وكلٌّ منهما ثقة، وإن كان الصَّواب أنَّه مرويٌّ عن عبد الله بن دينار فليست هذه قادحةٌ، ولا يُسمَّى الحديث المشتمل عليها معلَّلًا اصطلاحًا، كما لا يُعلُّ الحديث بكل قادحٍ ظاهر من فسق راويه أو غفلته أو سوء حفظه وإن أعلَّ بعضهم الحديث بذلك.