على قضاء حلب، ثُمَّ رجع وعاد إلى قضاء المحلّة، ثُمَّ وُلّي قضاء القُضاة بالدّيار المصرية بعد الثمانين، ثُمَّ نُقل إلى قضاء الشَّام فاجتمع الفضلاء عليه، ولاذوا به لفضائله المتعددة، وفواضله المزيدة وذهنه الثاقب، وثمر فكره المتراكب.
قال الشَّيْخ كَمَال الدّين مُحَمَّد بن الزملكاني: "لَو لم يقدر الله تَعَالَى لقَاضِي الْقُضَاة شهَاب الدّين ابْن الخويي أَن يجئ إِلَى دمشق قَاضِيا مَا طَلَعَ مِنَّا فَاضلٌ".
وقال البرزالي: "قرأت عليه (مسند الدارمي) و (عبد بن حميد) و (علوم الحديث) لابن الصلاح وغير ذلك".
وروى صَحِيح البُخَارِيّ بالأجازة، وَسمع مِنْهُ خلق، قَالَ الشَّيْخ أثير الدّين أبو حيان الأندلسي: "وَسَمعنَا عَلَيْهِ مُسْند الدَّارمِيّ".
ورآه الذهبي فقال: " ولم أسمع منه، بل مشيت إليه وشهد فِي إجازتي من الحاضرين بالقراءات وامتحنني فِي أشياء من القراءات، وأعجبه جوابي وتبسِّم".
وقال الذهبي أيضاً: وكان يلازم الاشتغال فِي كِبَره، ويصنّف التّصانيف، وكان -على كثرة علومه- من الأذكياء الموصوفين، ومن النُّظّار المنصفين، يبحث بتُؤَدَة وسكينة، كثير النظر في الحكمة والعقليّات، وقد شرح من أول "ملخّص القابسيّ" (١) خمسة عشر حديثا فِي مجلّد، فلو أتمه لكان غاية مرجحاً على "التمهيد" لأبي عمر بن عبد البر.
وشِعرُهُ جيّدٌ فصيح، ومنه:
بِخَفِيِّ لُطْفِكَ كُلَّ سُوءٍ أَتْقِي ... فامْنُنْ بِأرشَادِي إِلَيْهِ وَوَفِّقِ
أَحْسَنْتَ فِي الْمَاضِي وَإنِّي وَاثِقٌ ... بِكَ أَنْ تَجُودَ عَلَيَّ فِيمَا قَدْ بَقِي
أَنْت الَّذِي أَرْجُو فَمَا لي والورى ... إنَّ الَّذِي يَرْجُو سِوَاكَ هُوَ الشَّقِي
وقال الذهبي: " سَأَلت شيخنا المِزّيَّ عَنْهُ، فقال: كان أحد الأئمّة الفُضَلاء فِي عدّة علوم، وكان حَسَن الخُلُق، كثير التّواضع، شديد المحبّة لأهل العلم والدّين".
وكانت له يدٌ في المناظرة، وكان جامعًا لفنون من العلم كالتفسير والأصلين، والفِقه، والنحو، والخلاف، والمعاني، والبيان، والحساب، والفرائض، والهندسة، ذا فضل كامل، وعقلٍ وافر، وذهن ثاقب - رحمه اللَّه -، وَلم يبرح مشكور السِّيرَة.
(١) وهو كتاب "الملخص لمُسْند موطأ مَالك بن أنس" رِوَايَة أبي الْقَاسِم تأليف أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن خلف الْقَابِسِيّ الْفَقِيه. انظر: فهرسةُ ابنِ خير، لأبي بكر محمد بن خير الإشبيلي (ت ٥٧٥ هـ)، تحقيق: محمد فؤاد منصور، بيروت، دار الكتب العلمية ص ٧٨.