للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عن أبي ذر- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً: «أتدرون أين تذهب هذه الشمس». قالوا الله ورسوله أعلم. قال «إن هذه تجرى حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش، فتخر ساجدة، ولا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت، فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا، حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش، فيقال لها ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها». فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أتدرون متى ذاكم، ذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا». (١)


(١) صحيح البخاري - كتاب التوحيد - باب وكان عرشه على الماء (٦/ ٢٧٠٠)، رقم (٦٩٨٨)، صحيح مسلم - كتاب الإيمان - باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (١/ ١٣٨)، رقم (١٥٩).

يطعن الشيخ رشيد رضا في هذا الحديث حيث يقول «ومن هذه الأحاديث في الباب حديث أبي ذر جندب ابن أبي جنادة الذي يعد متنه من أعظم المتون إشكالاً فهو يقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله، أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ قال، قلت لا أدري، قال، إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجده ثم تقوم حتى يقال لها أرجعي، فيوشك يا أباذر أن يقال أرجعي من حيث دخلتِ وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل" "تفسير المنار (٨/ ٢١١)، وفي الحقيقة أن الحديث لا إشكال فيه فقد ورد في الكتاب الكريم سجود كل مخلوقات الله له طوعاً وكرهاً، يقول تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (١٥)} سورة الرعد، آية: ١٥، والشمس من مخلوقات الله فالحديث بالجملة موافق للآية. «وصحة الحديث على قواعد أهل السنة والجماعة مما لا يناقش فيه، ثم إن هذا السجود للشمس لا ندري كيفيته ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى الذي يسجد له كل من في السماوات والأرض كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)} سورة الحج، آية: ١٨، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٥٠)} سورة النحل، الآيات: ٤٨ - ٥٠. وقد تكلم العلماء رحمهم الله تعالى عن حديث سجود الشمس تحت العرش وردوا على من أول ذلك، وبينوا أن سجودها تحت العرش سجود حقيقي، قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مستقرها تحت العرش" قال: "لا ننكر أن يكون لها استقرار تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهده وإنما أخبرنا عن غيب فلا نكذب به ولا نكيفه؛ لأن علمنا لا يحيط به .. ثم قال عن سجودها تحت العرش: وفي هذا إخبار عن سجود الشمس تحت العرش فلا ينكر أن يكون ذلك عند محاذاتها العرش في مسيرها والتصرف لما سخرت له، وأما قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} سورة الكهف، آية: ٨٦، فهو نهاية مدرك البصر إياها حالة الغروب ومصيرها تحت العرش للسجود، وإنما هو بعد الغروب»، قال القاضي عياض عقب شرحه للحديث السابق: «وهو على ظاهره عند أهل الفقه والحديث والمتكلمين من أهل السنة خلافا لمن تأوله من المبتدعة والباطنية، وهو أحد أشراط الساعة العظام المنتظرة»، وقال الإمام النووي رحمه الله: «وأما سجود الشمس فهو بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى»، وقال الإمام ابن كثير رحمه الله: يسجد لعظمته تعالى كل شيء طوعا وكرها، وسجود كل شيء مما يختص به، وقال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري: «إنما ينكر ذلك من يرتاب في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأما من لا يشك في صدقه، ويعتقد أنه مبلغ عن ربه كما أخبر الله عنه في قوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٤)}؛ فلا ينكر ذلك ولا يرتاب فيه، فإن قيل: إن الشمس لا تزال طالعة على الأرض، ولكنها تطلع على جهة منها، وتغرب عن الجهة الأخرى؛ فأين يكون مستقرها الذي إذا انتهت إليه سجدت واستأذنت في الرجوع من المشرق؟ !
فالجواب أن يقال: حسب المسلم أن يؤمن بما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعتقد أنه هو الحق، ولا يتكلف ما لا علم له به من تعيين الموضع الذي تسجد فيه الشمس، بل يكل علم ذلك إلى الله تعالى.
وقد روى: الإمام أحمد، والشيخان؛ "عن أبي ذر- رضي الله عنه -؛ قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}؛ قال: «مستقرها تحت العرش».
فهذا المستقر الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا انتهت إليه الشمس؛ سجدت، واستأذنت في الرجوع من المشرق، فيؤذن لها، فإذا كان في آخر الزمان؛ سجدت كما كانت تسجد، فلم يقبل منها، واستأذنت في الرجوع من المشرق؛ فلم يؤذن لها؛ يقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها.
قال ابن كثير: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قرأ: {والشمس تجري لمستقر لها}؛ أي: ليست مستقرة؛ فعلى هذا تسجد وهي سائرة".

<<  <   >  >>