الأرض، فيبل الأرض، ويرطب الهواء، ويعدل الفصل تعديلا زائدا.
ومنها أن كل نهر من الأنهار العظام، وإن كل فيه منافع، فلا بد أن يتبعها مضار في أوان طغيانه بإفساد ما يليه ونقص ما يجاوره، والنيل موزون على ديار مصر بوزن معلوم، وتقدير مرسوم لا يزيد عليه، ولا يخرج عن حده {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}(١) .
ومنها أن المعهود في سائر الأنهار أن يأتي من جهة المشرق إلى المغرب، وهو يأتي من جهة المغرب إلى الشمال، فيكون فعل الشمس فيه دائمًا، وأثرها في
إصلاحه متصلا ملازما؛ وفي ذلك يقول الشاعر:
مصر ومصر ماؤها عجيب ... ونهرها يجري به الجنوب
ومنها أن كل الأنهار يوقف على منبعه وأصله، والنيل لا يوقف له على أصل منبع. وليس في الدنيا نهر يصب في بحر الصين والروم غيره؛ وليس في الدنيا نهر يزيد ثم يقف، ثم ينقص ثم ينضب على الترتيب والتدريج غيره؛ وليس في الدنيا نهر يزرع عليه ما يزرع على النيل، ولا يجيء من خراج غلة زرعه ما يجيء من خراج غلة زرع النيل.
قال صاحب مباهج الفكر: النيل أخف المياه وأحلاها، وأرواها وأمراها، وأعمها نفعا، وأكثرها خراجا؛ ويحكى أنه جبي في أيام كنعاوس؛ أحد ملوك القبط الأول مائة ألف ألف وثلاثون ألف دينار، وجباه عزيز مصر مائة ألف ألف دينار، وجباه عمرو بن العاص اثني عشر ألف ألف دينار، وجباه عبد الله بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار، ثم رذل إلى أن جبي أيام جوهر القائد ثلاثة آلاف ألف ومائتي ألف دينار؛ وسبب تقهقره أن الملوك لم تسمح نفوسهم بما كان ينفق في الرجال الموكلين