البناء، عالي السمك، لم تر عيني أحسن منه، وفي هذه الجزيرة كان الهودج الذي بناه الآمر الخليفة لزوجته البدوية التي هام في حبها، والمختار بستان الإخشيد وقصره، وله ذكر في شعر تميم بن المعز وغيره. ولشعراء مصر في هذه الجزيرة أشعار منها قول أبي الفتح بن قادوس الدمياطي:
أرى سرح الجزيرة من بعيد ... كإحداق تغازل في المغازل
كأن مجرة الجوزاء خطت ... وأثبتت المنازل في المنازل
وكنت أبيت بعض الليالي في الفسطاط على ساحلها، فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل. أما سور هذه الجزيرة الدري اللون، فلم ينفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة، وفي داخله من الدور السلطانية ما ارتفعت إليه همة بانيها، وهو من أعظم السلاطين همة في البناء، وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانًا لجلوسه لم تر عيني مثاله، ولا يقدر ما أنفق عليه، وفيه من الكتابة بصفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل الأفكار، ويستوقف الأبصار، ويفصل عما أحاط به السور أرض طويلة في بعضها حاظر حظر على أصناف الوحوش التي يتفرج فيها السلطان، وبعدها بروج يتقطع فيها مياه النيل، فينظر فيها أحسن منظر، وقد تفرجت كثيرًا في طرق هذه الجزيرة مما يلي بر القاهرة، فقطعت بها عشيات مذهبات، لا تزال لأحزان الغربة مذهبات، وإذا زاد النيل فصل ما بينها وبين الفسطاط بالكلية. وفي أيام احتراق النيل يتصل برها ببر السلطان من جهة خليج القاهرة، ويبقى موضع الجسر يكون فيه المراكب.
وركبت مرة في هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب المحسن محيي الدين بن بندار وزير الجزيرة، وصعدنا إلى جهة الصعيد ثم انحدرنا، واستقبلنا هذه الجزيرة وأبراجها تتلألأ، والنيل قد انقسم عنها، فقلت: