قال عبد الرحمن: هذه الشواهد لا تناسب الأصل الأول، وهو الحجاب، وإنما الحجاب ما يستر الحجة، فيشبّه على الناظر حتى يحقق النظر، ويخلص للحق، فتنكشف له بقدر إخلاصه واجتهاده. ورمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكف من الحصباء لا يستر تلك الحجة، إذ لا يتوهم عاقل أن رمي الإنسان بملء كفٍّ يكفي عادة لأن يبلغ إلى كل فرد من أفراد جيش العدو مع تباعد بعضهم، ثم يملأ عيونهم. ولا يتوهم عاقل أن ملء كفين من الرماد يذرّه رجل نحو السماء يكفي عادة لأن يصير غبارًا على أرض مصر كلها. ولا يتوهم عاقل أن مدّ الإنسان يده سبب [ص ٥٤] عادي لمجيء الجراد. فالمناسب في هذه الشواهد إنما هو الأمر الثالث، وهو أن يعلم أن ذلك الخارق معجزة لذلك النبي، وقد يناسب الأمر الثاني وهو بذل الوسع في التسبب.
فإن قلت: فإن المعجزات من حجج الحق، فكيف جاءت مكشوفة.
قلت: أما المعجزات التي في هذه الشواهد فلا أراها مكشوفة، ولكن الحجاب فيها غير ما ظنه المعلِّم من الرمي باليد، والإشارة بها. وإنما الحجاب في قصة بدر هو توهم الاتفاق، فيقول الملحد: رمى محمد بملء يده من التراب والحصى، فصادف أن هبت ريح شديدة سفت التراب. وأما في قضيتي موسى، فهو ما كانوا يتوهمونه من السحر.
ولكن ليس الخوارق كلها كذلك، بل منها ما يكون مكشوفًا لحكمة تقتضي ذلك، من ذلك ما يطلع الله تعالى النبي عليه وحده كإحياء الطير لإبراهيم عليه السلام، والإسراء والمعراج بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يكن المقصود بذلك إقامة حجة حتى تقتضي الحكمة حجابًا،