وأما التكرير، فمن الحكمة فيه أن رمي إبراهيم عليه السلام كان للشيطان وهو يشاهده، فكان المعنى المقصود ــ وهو مجانبته وطرده وإبعاده ــ واضحًا. ورمي الجمار ليس كذلك، فإن كثيرًا من الناس يرمي، ولا يدري لماذا يرمي، فكان ذلك داعيًا إلى تكرير رمي الجمار، ليظهر بذلك نحو ما ظهر من إبراهيم عليه السلام من صدق العزم على طرد الشيطان ومجانبته.
أما من عرف المعنى فإنه يستحضره كلما رمى، فيتقوى استحضاره في نفسه، ويرجى أن يثبت فيها، فينتفع به إلى قابل على الأقل.
وأما من لم يعرف المعنى فيكفيه خضوعه لأمرٍ ظاهره العبث، إيمانًا منه بربِّه، وتصديقًا لنبيِّه، وإذا تكرر الرمي قوي هذا المعنى.
وأنت خبير أن الإنسان لو حجَّ ألف حَجَّة لكان عليه في كل منها أن يرمي، مع أن الرمي الذي كان المبدأ ــ وهو رمي الشيطان ــ لم يكن إلا في سنة واحدة. وكذلك رمي أصحاب الفيل على رأي المعلم، لو صح. فإذا لم يبعد التكرار بتكرار السنين، فنحوه التكرار في عدة أيام.
[ص ٨٤] وكما أن إبراهيم عليه السلام لو حج سنة أخرى بعد حجته التي رمى فيها الجمرات لكان عليه أن يرمي الجمرات، وإن لم ير الشيطان. فكذلك لا مانع أن يكون الأمر على ما قدمته: أنه رمى الشيطان مصعدًا إلى عرفة، ثم شرع له الرمي عند عوده منها.
وأما الاقتصار يوم النحر على رمي جمرة العقبة، وتقديم وقته، فمن الحكمة فيه ــ والله أعلم ــ التخفيف عن الحاج، فإنه متأذٍّ بطول الإحرام، وعليه في هذا اليوم أعمال كثيرة، سوى الرمي، كالنحر والحلق والتنظف وصلاة العيد وطواف الإفاضة، وغير ذلك. فلو كُلِّف بأن ينتظر حتى تزول