قال ابن إسحاق:"فلما ردَّ اللهُ الحبشة عن مكة، وأصابهم بما أصابهم به من النقمة، أعظمت العرب قريشًا، وقالوا:[هم] أهل الله، قاتل الله عنهم، وكفاهم مؤنة عدوهم"(١).
وكان من تمام النعمة أن الله تبارك وتعالى لم يحوجهم إلى قتال، بل ثبطهم عنه، لئلا تنتقض [ص ٩٣] مؤالفتهم لليمن والحبشة، فتنقطع تجارتهم. بل لا بد أن يكون بعد ذلك إعظام وإجلال لهم من ملوك الحبشة في الحبشة واليمن، فكان ذلك زيادة في تسهيل تجارتهم.
ولهذا ــ والله أعلم ــ عقب الله هذه السورة بسورة قريش، فامتنَّ عليهم فيها بما يسَّره لهم من الإيلاف لرحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والحبشة وغيرها {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
فقد اتضح بما قدمناه أن عمود السورة هو تهديد العصاة الذين ألهاهم التكاثر عن الآخرة، ولم يعتبروا بأيام الله تعالى في العصور، فلم يؤمنوا، بل تشاغلوا بهمز الناس ولمزهم، وجمع المال وتعديده؛ وخاصة أهل مكة الذين كان ذنبهم شبيهًا بذنب أصحاب الفيل، وأشد منه كما مرَّ. واتصل بهذا التهديد الامتنان على أهل مكة كما علمت. فبالتهديد ارتبطت السورة بما قبلها، وبالامتنان ارتبطت بما بعدها.
(١) سيرة ابن هشام بهامش الروض الأنف. [المؤلف]. ط السقا (١/ ٥٧) وما بين الحاصرتين منها.