نعم، إن العصبية قد تلاعبت بكثير من الأخبار، ولكن سلطانها على بعض الجزئيات، كالاختلاف فيمن أشار بدخول الشعب، وفيمن قتل لَقيط بن زُرارة، ونحو ذلك. وأصل القصة وأكثر جزئياتها متفق عليها. وترى في تلك القصة نموذجًا من [ص ٢٢] أشعارها في وقائعهم.
فكيف يعقل مع هذا أن يكونوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه في المعركة، ثم لا يوجد لذلك في أخبارهم وأشعارهم أثرٌ؟ مع أن ذلك لو وقع لكان أعظم واقعة تعهدها العرب في أرضها، فإنه لا يعهد في أيامها قبل الإسلام ملك أجنبي غزاها في قلب بلادها بجيش عظيم، وفيلة عديدة، فقاتلوه، وقتلوه في المعركة، وهزموا جنده. فلو وقع ذلك لكان أحق الوقائع بأن تتواتر أخباره، وتكثر أشعارهم فيه، وافتخارهم به، وتنازعهم في القاتل من هو، ورثاء قتلاهم، وغير ذلك.
ومن الأدلة أن جماعة من التابعين وأتباعهم حكوا القصة، وأعلنوا بها، مصرّحين بأن أهل مكة أحجموا عن القتال، وتحرزوا بشَعَف الجبال، ولم يقع قتال ألبتة، فلا يقوم أحد من العرب يرد عليهم، ويبين خلاف ما قالوه. فهب أن العرب تركوا عادتهم في نقل الأخبار، وتقييدها بالأشعار، وكثرة الافتخار؛ أفلم يكن لهم من غيرتهم وحميتهم، والحرص على ردِّ الباطل عنهم، ما يحملهم على أن يصرخوا في وجوه الحاكين لما تقدم عندهم، قائلين: كذبتم، بل قاتل العرب أبرهة، وقتلوه في المعركة، وجرى كيت وكيت.
ومن الأدلة: أن تجارة قريش إلى اليمن والحبشة لم تزل مستمرة، ولو كانوا قاتلوا أبرهة، وقتلوه، لانقطع متجرهم إلى اليمن والحبشة.