وخبر السيل لم ينفرد به الواقدي، فقد جاء عن عكرمة كما تقدم. ولا مانع من صحته، ويكون سيلًا متوسطًا، لا يطمي على مكة، مع أن في الروايات: أن أهل مكة قد كانوا تحرزوا بشعف الجبال، فلعل السيل جاء قبل نزولهم، ولأهل مكة عادة بنزول السيول. وهب أنه لم ينزل سيل، فقد عرفت أن الذين هلكوا من الجيش في مكانهم إنما هم بعضهم، فلعلهم كانوا قليلًا بحيث إن أهل مكة استطاعوا أن يحفروا لهم الحفر، ويواروهم فيها. فإن كان لا بد من أكل الطير، فالطير المعروفة في بلاد العرب كالعقبان والرخم والنسور تكفي لأكل جثث الذين هلكوا في ذلك الموضع.
وقد كانت في الجاهلية والإسلام [ص ٤٣] وقائع عظيمة، هلك فيها ألوف من الناس، ولم يمتنع سكنى البلاد المجاورة لها، ولا أرسل الله تعالى طيرًا غريبة، وذلك كحرب الكلاب، وذي قار، واليرموك، والقادسية.
وهَبْ أنه ثبت أن تلك الطير التي أرسلها الله تعالى أكلت من جثث الهلكى، فمن أين يلزم من ذلك أنها لم ترمهم؟ بل نقول حينئذٍ: إن الله تعالى أرسلها لعذاب أصحاب الفيل، بأن ترميهم بالحجارة، كما اقتضته السورة، وصرحت به معظم الروايات، وأطبق عليه الناس، ففعلتْ ما أُرْسِلَت له، ثم بقيت حتى أكلت جثث الموتى. وكان ذلك من الله عزَّ وجلَّ إتمامًا للنعمة على أهل مكة بتعجيل التنظيف، ومكافأةً منه سبحانه للطير التي أطاعته، فأطعمها من صيدها. ولم يتعرض القرآن ولا الروايات لأكل تلك الطير من الجثث، لأنه أمر عادي. والله أعلم.