للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأمّا الأمر الآخر الذي جعل الأصوليين يختلفون في تعريف العلة ويتجادلون فيه هو: ما ألزموه أنفسهم من صناعة الحدود الجامعة المانعة، فكان هذا مثارًا للبحث والجدال لا في تعريف العلة فحسب بل في كثير من المفاهيم العلمية، فتجد الكم الهائل من الجدال في تعريف الحكم الشرعي وأنواعه المختلفة، وتعريف الأمر والنهي، والعام والخاص، وتعريف القياس، وغير ذلك من الأمور التي كثر فيها الأخذ والرد بما تستحق أحيانًا وبما لا تستحق في غالب الأحيان، حتى تضخم علم الأصول وتعقّد فعَسُر على المبتدئ وُلوجُه وعلى المنتهي حفظُه والإحاطة به.

وصناعة الحدود أو التعريفات والجدال فيها لا ينتمي إلى منهج السلف بنسب ولا ولاء، إنما هو شيء أحدثه المناطقة؛ قال الشاطبي، رحمه اللَّه: «إن ما يتوقف عليه معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبيٌّ يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور. فأما الأول: فهو المطلوب المنبَّه عليه كما إذا طلب معنى المَلَك فقيل: «إنه خلق من خلق اللَّه يتصرف في أمره»، أو معنى الإنسان فقيل: «إنه هو هذا الذي أنت من جنسه»، أو معنى الكوكب فقيل: «هذا الذي نشاهده بالليل»، ونحو ذلك، فيحصل فهم الخطاب مع هذا الفهم التقريبي حتى يمكن الامتثال.

وعلى هذا وقع البيان في الشريعة كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "الكبر بطر الحق وغمط الناس" (١) ففسره بلازمه الظاهر لكل أحد وكما نفسر ألفاظ القرآن والحديث بمرادفاتها لغةً من حيث كانت أظهر في الفهم منها، وهي عادة العرب والشريعة عربية، ولأن الأمة أمية فلا يليق بها من البيان إلا الأمي …


(١) مسلم بن الحجاج القشيري، الصحيح، ومعه شرح النووي، ط ١، دار المعرفة، بيروت، ١٤١٤ هـ، حديث رقم (٢٦١) وسيشار له: مسلم، الصحيح.

<<  <   >  >>