والثاني: حكم النفي الأصلي، وهذا إذا لم يكن المفهوم المخالف حجة كما هو رأي جمع من الأصوليين (١)، لأن الأصل في العبادات أنها لا تشرع إلا بدليل والمنصوص عليه في الآية هو وجوب التيمم عند عدم وجدان الماء أما التيمم عند وجدان الماء فهذه حالة لا يتعرض لها النص - إذا أُلغي المفهوم المخالف - بالنفي أو الإثبات، فتبقى على حكم النفي الأصلي والذي يقضي بعدم إجزاء التيمم في هذه الحالة لأن العبادة لا تشرع إلا بدليل أو لأن الأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على خلاف ذلك.
فما الذي فعله عمرو؟ إنه خرج عن هذا الظاهر وألحق حالة الخوف من الهلاك عند استعمال الماء بحالة فقد الماء أو المرض بعلة ظاهرة وهي: أن التيمم إنما شرع دفعًا للحرج عند فقد الماء أو عند المرض والحرج موجودٌ أيضًا في حالة الخوف من الهلاك عند استعمال الماء فتُلحق هذه الحالة بما نُصَّ عليه من الحالات لاشتراك الجميع في العلة وهي وجود الحرج في كلٍّ.
فاجتهاده هذا تضمن تعميم الحكم لعموم علة النص، بحيث أصبح التيمم مشروعًا في كل حالة يلحق الحرج صاحبها إذا استعمل الماء سواء نُصّ على هذه الحالة في الآية أم لم يُنصّ.
وبهذا يكون عمرو قد أبطل المفهوم المخالف للقيد {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} وكذا أبطل حكم النفي الأصلي - وهي أدلة ظاهرة لا قاطعة - بالتعليل.
وقد أقرّه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا الاجتهاد فكان حجة على صحة عود التعليل على حكم النص بالتعميم أو - بعبارة أخرى - حجة على مشروعية القياس وإن عارضه المفهوم المخالف للنص.
(١) انظر: الشوكاني، إرشاد الفحول إلى تحقيق علم الأصول، ط ١، دار الفكر، بيروت، ١٩٩٢ م، ص ٣٠٣.