للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ذَلِكَ مَرَّةً أُخرى لَمْ تَصْحَبْنِي. فَكَانَ إِذا سَمِعَ شَيْئًا يَتَغَيَّرُ، وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ حَتَّى كَانَ يقطر كلّ شعرة من بدنه بِقَطْرةٍ (١)، فَيَوْمًا مِنَ الأَيام صَاحَ صَيْحَةً تَلِفَتْ نَفْسُهُ (٢).

فَهَذَا الشَّابُّ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِصْدَاقُ مَا قَالَهُ السَّلَفُ؛ لأَنه لَوْ كَانَتْ صَيْحَتُهُ الأُولى غَلَبَةً (٣) لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ، وإِن كَانَ بِشِدَّةٍ، كَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (٤)، وَعَلَيْهِ أَدّبه الشَّيْخُ (٥) حِينَ أَنكر عليه وأوعده (٦) بالفُرْقَةِ، إِذْ فَهِمَ مِنْهُ أَن تِلْكَ الزَّعْقَةَ مِنْ بَقَايَا رُعُونَةِ النَّفْسِ، فَلَمَّا خَرَجَ الأَمر عَنْ كَسْبِهِ (٧) ـ بِدَلِيلِ مَوْتِهِ ـ، كَانَتْ صَيْحَتُهُ عَفْوًا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا إِن شاءَ اللَّهُ.

بِخِلَافِ هؤلاءِ الْقَوْمِ (٨) الَّذِينَ لَمْ يشُمُّوا مِنْ أَوصاف الفضلاءِ رائحة، فأَخذوا في التشبُّه (٩) بهم، فأَبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج، وياليتهم وقفوا عند هذا الحدّ المذموم، ولكنهم (١٠) زادوا على ذلك الرَّقْص والزَّفَن (١١) وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رأْسه، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْحِكِ للحمقى، لكونه من أَعمال الصبيان


(١) في (خ): "حَتَّى كَانَ يَقْطُرُ الْعَرَقُ مِنْهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ من بدنه قطرة".
(٢) أخرج هذه الحكاية القشيري في "الرسالة" (ص٢٠٤) عن شيخه أبي حاتم السجستاني؛ قال: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت عبد الواحد بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد ... ، فذكرها.
وذكرها أيضاً الغزالي في "الإحياء" (٢/ ٣٠٢)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة" (١/ ٣٩٩).
(٣) في (خ): "غلبته".
(٤) في (خ) و (م): "خيثم".
(٥) كتب في (خ) بخط دقيق فوق كلمة "الشيخ": (أي الجنيد).
(٦) في (خ) و (م): "ووعده".
(٧) في (غ) و (ر): "على كسبه".
(٨) في (ر) و (غ): "الفقراء".
(٩) في (خ) و (م): "بالتشبه".
(١٠) في (خ): "ولكن".
(١١) الزّفَن: هو الرقص، وأصله: اللعب والدفع والضرب بالرجل. انظر: "لسان العرب" (١٣/ ١٩٧)، و"التعاريف" للمناوي (ص٣٨٦ ـ ٣٨٧).