للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ وَغَسَلُوا أَيديهم جَلَسَ الْحَارِثُ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَراد مِنْكُمْ أَن يسأَل شَيْئًا فليسأَل، فَسُئِلَ عَنِ الإِخلاص، وعن الرياءِ، ومسائل كثيرة فأجاب عنها (١)، واستشهد بِالْآيِ وَالْحَدِيثِ، وأَحمد يَسْمَعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا من ذلك. فلما مرَّ (٢) هَوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ أَمر الْحَارِثُ قَارِئًا يقرأُ شَيْئًا من القرآن على الحَدْرِ (٣)، فقرأَ، فبكى بعضهم وانْتَحَبَ آخَرُونَ، ثُمَّ سَكَتَ القارئُ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِدَعَوَاتٍ خِفَافٍ، ثُمَّ قَامَ إِلى الصَّلَاةِ. فَلَمَّا أَصبحوا قال أَحمد: قد كان بلغني (٤) أَن ها هنا مَجَالِسَ لِلذِّكْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فإِن كَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ فَلَا أُنكر مِنْهَا شَيْئًا (٥).

فَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَن أَحوال الصُّوفِيَّةِ تُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وأَن مَجَالِسَ الذِّكْرِ لَيْسَتْ مَا زَعَمَ هؤلاءِ، بَلْ مَا تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُهُ، وأَما (٦) مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ فَهُوَ مما يُنكر.


(١) قوله: "فأجاب عنها" ليس في (خ).
(٢) قوله: "مرّ" في موضعه بياض في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: بياض في الأصل، ولعل الساقط كلمة "مضى"، يقال: مضى هدء، وهدى من الليل، وجئتك بعد هدء من الليل. اهـ.
(٣) في (غ) و (ر): "الحذَر"، وفي (خ) يشبه أن تكون: "الحدو"، والمثبت من (م).
(٤) في (غ) و (ر): "يبلغني".
(٥) هذه الحكاية أخرجها الحاكم ـ كما في "ميزان الاعتدال" (١/ ٤٣٠)، و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (٢/ ٢٧٩) ـ، فقال: سمعت أحمد بن إسحاق الصِّبْغي؛ سمعت إسماعيل بن إسحاق السراج يقول: قال لي أحمد بن حنبل: يبلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني في مكان أسمع كلامه ... ، ثم ذكر الحكاية، وفيها: ثم ابتدأ رجل منهم وسأل الحارث، فأخذ في الكلام ـ وكأن على رؤوسهم الطير ـ، فمنهم من يبكي، ومنهم من يخنّ، ومنهم من يزعق، وهو في كلامه، فصعدت الغرفة، فوجدت أحمد قد بكى حتى غُشي عليه ... ، إلى أن قال: فلما تفرقوا قال أحمد: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا، وعلى هذا فلا أرى لك صحبتهم.
وأخرجها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (٨/ ٢١٤) من طريق محمد بن نعيم الضّبّي ـ وهو أبو عبد الله الحاكم ـ، عن أحمد بن إسحاق الصبغي، به.
قال الذهبي عقب ذكره لها في "الميزان": "قلت: إسماعيل وثّقه الدارقطني، وهذه حكاية صحيحة السند منكرة، لا تقع على قلبي، أستبعد وقوع هذا من مثل أحمد".
(٦) في (ر) و (غ): "وأن".