للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ المُقْتدى بِهِمْ (١)، فإِذاً لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هؤلاءِ المتأَخِّرون (٢)؛ إِذ بَايَنُوا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

والأَمثلة فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ لَوْ تُتُبِّعَتْ لَخَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وإِنما ذَكَرْنَا أَمثلة تبيِّن مِنَ اسْتِدْلَالَاتِهِمُ الْوَاهِيَةِ مَا يُضَاهِيهَا، وَحَاصِلُهَا الْخُرُوجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْضَحَهُ العلماءُ، وَبَيَّنَهُ الأَئمة، وَحَصَرَ أَنواعه الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.

وَمَنْ نَظَرَ إِلى طُرُقِ (٣) أَهل الْبِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ؛ لأَنها سَيَّالة لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وعلى (٤) وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زائغٍ وكافرٍ أَن يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وكفرِهِ؛ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا إِلى الشَّرِيعَةِ.

فَقَدْ رأَينا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنه اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ؛ كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيكِ (٥) عيسى مع الله في الربوبية (٦) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (٧)، واستدل


(١) لكن أنكر عليه الإمام أحمد وبعض أئمة عصره أموراً ظهرت منه. ذكر الخطيب في "تاريخه" (٨/ ٢١٥ ـ ٢١٦) أن أبا القاسم النصراباذي قال: "بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيء من الكلام، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى في دار ببغداد ومات فيها، ولم يصلّ عليه إلا أربعة نفر".
وذكر عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه قال: "شهدت أبا زرعة ـ وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه ـ، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب! هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمين، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟ هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، يأتونا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحمن الديبلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع! ".
(٢) في (ر) و (غ): "لهؤلاء المتأخرين".
(٣) في (خ): "طريق".
(٤) في (خ): "وعلى كل".
(٥) في (غ): "تشريع".
(٦) قوله: "في الربوبية" ليس في (خ) و (م).
(٧) سورة النساء: الآية (١٧١).