للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ماءَين: سخن وبارد، فيتحرَّى الباردَ الشاقَّ استعمالُه، ويتركُ الْآخَرَ؛ فَهَذَا لَمْ يُعْطِ النَّفْسَ حقَّها الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ، وَخَالَفَ دَلِيلَ رَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى زَائِدٍ، فَالشَّارِعُ لَمْ يَرْضَ بشرعيَّة مِثْلِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (١): {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (٢)، فَصَارَ متَّبعاً لِهَوَاهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَلا أَدلكم عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟: إِسْباغ الوضوءِ عِنْدَ الكَرِيهَات ... " (٣) الْحَدِيثَ؛ مِنْ حَيْثُ كَانَ الإِسباغ مَعَ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ سَبَبًا لمَحْو الْخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ للإِنسان أَن يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ هَذَا الأَجر، وذلك (٤) بإِكراه النَّفْسِ، وَلَا يَكُونُ إِلا بتَحَرِّي إِدخال الْكَرَاهِيَةِ عَلَيْهَا؛ لأَنا نَقُولُ: لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قُلْتُمْ، وإِنما فِيهِ أَنَّ الإِسباغ مَعَ وُجُودِ الْكَرَاهِيَةِ، فَفِيهِ أَمر زَائِدٌ؛ كَالرَّجُلِ يَجِدُ مَاءً بَارِدًا فِي زَمَانِ الشتاءِ، وَلَا يَجِدُهُ سُخْنًا، فَلَا يَمْنَعُهُ شدَّةُ بَرْدِه عَنْ كَمَالِ الإِسباغ.

وأَما الْقَصْدُ إِلى الْكَرَاهِيَةِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ فِي الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنِ الْعِبَادِ، وَلَوْ سُلِّم أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِيهِ؛ لَكَانَتْ أَدِلَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ تَعَارُضُهُ، وَهِيَ قطعيَّة (٥)، وخبر الواحد ظَنّي (٦)؛


(١) في (م): "قال تعالى".
(٢) سورة النساء: الآية (٢٩).
(٣) أخرجه مُسْلِمٌ (٢٥١) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(٤) قوله: "وذلك" ليس في (خ) و (م).
(٥) من قوله: "بل في الأدلة المتقدمة" إلى هنا مكرر في (خ).
(٦) رحم الله الشاطبي! فقد سرت إليه هذه المقولة التي لا تتناسب مع منهجه الذي دعى إليه؛ منهج الالتزام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. فإطلاق القول بأن خبر الواحد ظني ليس بصحيح؛ لأن خبر الواحد عندهم يعم ما ليس بمتواتر، وإن كان مرويّاً من طرقٍ عدّة لم تبلغ حدّ التواتر عندهم، وهذا يتنافى أولاً مع حكم الله تعالى في الشهادة. قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}؛ فشهادة الشاهدين تراق بها الدماء، وتستباح الأموال والفروج، فهل يمكن أن يقبل في شرع الله ما هو ظني، والظن أكذب الحديث! ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم إذا استثبتوا يزيدون على شهادة آخر مع الواحد؛ كما في قصة عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في حديث الاستئذان، وشهادة أبي سعيد الخدري لأبي موسى بذلك.
فإن قيل: لعلّ الشاطبي يعني خبر الواحد الفرد، ولا يعني ما اصطلح عليه أهل=