للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فتأَمّلوا كَيْفَ لَمْ يُطَالِبِ اللَّهُ الْعِبَادَ بِتَرْكِ الْمَلْذُوذَاتِ؛ وإِنما طَالَبَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا إِذا تَنَاوَلُوهَا. فالمُتَحَرِّي لِلِامْتِنَاعِ مَنْ تَنَاوَلَ مَا أَباحه اللَّهُ من غير مُوجِبٍ شَرْعي مُفْتَئِت عَلَى الشَّارِعِ (١)، وَكُلُّ مَا جاءَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ من الامتناع عن بعض المتناولات ليس (٢) مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وإِنما امْتَنَعُوا مِنْهُ لِعَارِضٍ شَرْعِيٍّ يَشْهَدُ الدَّلِيلُ بِاعْتِبَارِهِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنَ التوسُّع لضيق الحلال (٣) في يده، أَو لأَن التناول (٤) ذَرِيعَةٌ (٥) إِلى مَا يُكْرَهُ أَو يُمْنَعُ، أَو لأَن فِي المُتَنَاوَلِ وَجْهُ شُبْهَةٍ تَفَطَّنَ إِليه التَّارِكُ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ إِليه غَيْرُهُ مِمَّنْ عَلِمَ بِامْتِنَاعِهِ. وَقَضَايَا الأَحوال لَا تُعَارِضُ الأَدلة بِمُجَرَّدِهَا؛ لِاحْتِمَالِهَا فِي أَنفسها. وَهَذِهِ المسأَلة مذكورةٌ عَلَى وجهها في كتاب "الموافقات" (٦)، والحمد لله (٧).

وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ فِي الأَفعال وَالْأَحْوَالِ (٨) عَلَى مَا يُخَالِفُ مَحَبَّةَ النُّفُوسِ، وَحَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ شيءٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ. أَلا تَرَى أَن الشَّارِعَ أَباح أَشياءَ مِمَّا فِيهِ قضاءُ نَهْمَةِ النَّفْسِ وتمتُّعها واستلذاذُها؟ فَلَوْ كَانَتْ مخالفتُها بِرًّا لشُرِعَ، ولنُدِبَ النَّاسَ إِلى تَرْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُبَاحًا، بَلْ مندوبَ التَّرْكِ، أَو مكروهَ الْفِعْلِ.

وأَيضاً فإِن اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ فِي الأُمور المُتَنَاوَلةِ ـ إِيجاباً أَو نَدْبًا ـ أَشياءَ مِنَ المُسْتَلَذَّات الْحَامِلَةِ عَلَى تَنَاوُلِ تِلْكَ الْأُمُورِ، لِتَكُونَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ كَالْحَادِيَ إِلى الْقِيَامِ بِتِلْكَ الأُمور، كَمَا جَعَلَ فِي الأَوامر إَذا امْتُثلت، وَفِي النَّوَاهِي إِذا اجْتُنبت أُجوراً (٩). مُنْتَظَرَةً؛ وَلَوْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وجعل في


(١) علق رشيد رضا هنا بقوله: يقال: افتأت على فلان افتئاتاً، وافتأت افتياتاً: إذا تصرف بشيء من شؤونه بدون إذنه ولا رضاه. اهـ.
(٢) قوله: "ليس" ليس في (خ).
(٣) في (خ): "الحال".
(٤) في (خ) و (م): "المتناول".
(٥) في (ر) و (غ): "خديعة".
(٦) انظر "الموافقات" (٤/ ٨ و٨٧).
(٧) قوله: "والحمد لله" ليس في (خ) و (م).
(٨) في (غ) و (ر): "والأقوال".
(٩) في (خ): "أجروا".