للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ: أَن تَرْكَ الأَولين لأَمر مَا مِنْ غَيْرِ أَن يُعَيِّنوا فِيهِ وَجْهًا مَعَ احْتِمَالِهِ فِي الأَدلّة الجُمْليَّة، وَوُجُودِ المَظِنَّة (١)، دَلِيلٌ عَلَى أَن ذَلِكَ الأَمر لَا يُعْمَلُ بِهِ، وأَنه إِجماع مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِ.

قَالَ ابْنُ رُشْد (٢) فِي شَرْحِ مسأَلة "الْعُتْبِيَّةِ": الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنه (٣) لم يَرَهُ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ ـ يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ ـ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، إِذ لَمْ يأْمر (٤) بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهُ، وَلَا أَجمع الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لا تثبت إِلا من أَحد هذه الوجوه (٥). قَالَ: وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ: بأَن ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ: صحيحٌ (٦)؛ إِذ لا يَصِحّ أَن تتوفَّر دواعي المسلمين (٧) عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعَ الدِّينِ، وقد أُمروا بِالتَّبْلِيغِ.

قَالَ: وَهَذَا أَصل مِنَ الأُصول (٨)، وَعَلَيْهِ يأْتي إِسقاط الزَّكَاةِ مِنَ الخُضَر والبُقُول ـ مَعَ وجوب (٩) الزكاة فيها بعموم قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّماءُ وَالْعُيُونُ والبَعْلُ: العُشُر، وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْح: نصف العشر" (١٠) ـ؛ لأَنا لو أَنزلنا (١١) ترك نقل أَخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم الزَّكَاةَ مِنْهَا كالسُّنَّة الْقَائِمَةِ فِي أَن لَا زكاة فيها، فكذلك نُنْزِل (١٢) تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَن لا سجود فيها. ثم حَكَى (١٣)


(١) في (ر) و (غ): "ووجوداً مظنة".
(٢) في "البيان والتحصيل" (١/ ٣٩٣).
(٣) أي: الإمام مالك.
(٤) في (خ) و (م): "يؤمر".
(٥) كذا في (غ) و (ر)، وهو الموافق لما في "البيان والتحصيل"، وفي (خ) و (م): "الأمور" بدل "الوجوه".
(٦) خبر: "واستدلاله"؛ أي: واستدلاله صحيح.
(٧) في (خ) و (م): "أن تتوفر الدواعي".
(٨) في "البيان والتحصيل": "وهذا أيضاً من الأصول".
(٩) في (خ) و (م): "وجود".
(١٠) أخرجه مالك في "الموطأ" (١/ ٢٧٠) واللفظ له، والبخاري (١٤٨٣) من حديث ابن عمر. وأخرجه مسلم (٩٨١) بنحوه من حديث جابر.
(١١) في (خ) و (م): "لأنا نزلنا".
(١٢) في (خ): "نزل" وفي (م): "تنزل".
(١٣) يعني: ابن رشد.