للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اتفاق الأمة على الإيمان بالله]

قال المؤلف رحمه الله: [اعلم - وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل - أن صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل، وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم، سميع بصير، لا شريك له ولا وزير، ولا شيبه له ولا نظير، ولا عدل ولا مثل، وأنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة التي نطق بها كتابه العزيز، الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢].

وصح بها النقل عن نبيه وخيرته من خلقه محمد سيد البشر، الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، وأقام الملة وأوضح المحجة، وأكمل الدين، وقمع الكافرين، ولم يدع لملحد مجالاً ولا لقائل مقالاً].

بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله الخطبة والثناء على الله عز وجل والصلاة على نبيه وأتباعه، قال المؤلف رحمه الله: (اعلم وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل).

فاعلم: أمر بالعلم، والعلم: هو حكم الذهن الجازم، يعني: تيقن، بخلاف الشك والشك هو ما يشك فيه الإنسان بين أمرين، فإذا كان أحد الأمرين راجحاً سمي ظناً، فالراجح يسمى ظناً، والمرجوح يسمى وهماً، وإذا استوى الأمران سمي شكاً، وإذا كان عنده جزم يسمى يقيناً وعلماً، فالمعلومات أربعة: علم، وظن، وشك، ووهم.

فالعلم: هو ما يجزم وما يتيقن فيه الإنسان، فهو علم الذهن الجازم.

والظن: هو الراجح من أحد الأمرين اللذين يشك فيهما، والوهم: هو المرجوح من أحد الأمرين، والشك: هو أن يتساوى الأمران.

فالمؤلف رحمه الله يقول: لا تشك ولا تظن ولا تتوهم بل تيقن من غير شك ولا ظن ولا وهم، ثم جاء بالجملة الاعتراضية، هي دعاء لطالب العلم، وهذا من نصحه رحمه الله، فمن نصحه لطالب العلم أن يعلمه ويدعو له.

قال: (وفقنا الله وإياك لما يرضيه من القول والنية والعمل)، فهذا تعليم ودعاء، وهذا من نصحه، كما قال الشيخ الإمام المفتي المجدد محمد بن عبد الوهاب في كثير من رسائله: اعلم أرشدك الله لطاعته، اعلم رحمك الله، فهؤلاء الأئمة وهؤلاء العلماء أنصح الناس للناس، فالأنبياء هم أنصح الناس للناس، والعلماء هم ورثة الأنبياء، فمن نُصح العلماء أنهم يعلِّمون ويدعون.

فهو يعلمك ويقول: اعلم، ويدعو لك بقوله: (وفقنا الله وإياك)، ونسأل الله أن يوفق، وهو سأل الله التوفيق له ولك يا طالب العلم! لما يرضيه من القول والعمل والنية، فنسأل الله أن يوفقنا، يعني: يجعلنا موفقين مسددين، قابلين للحق مختارين له، راضين به، والحق هو الذي يرضي الله من القول، مثل: النطق بكلمة التوحيد، والشهادتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وتلاوة القرآن، والتسبيح والتهليل والتكبير وغير ذلك.

(والعمل): كالصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، (والنية): الاعتقاد الصحيح بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر.

(وأعاذنا وإياك من الزيغ والزلل)، هذه استعاذة بالله لنفسه ولطالب العلم، فقد استعاذ بالله قائلاً: أعاذنا وإياكم من الزيغ.

و (الزيغ): هو الانحراف عن الحق في الاعتقاد، كأن يعتقد اعتقاداً باطلاً سيئاً، كاعتقاد المشركين، أو اعتقاد اليهود، أو اعتقاد النصارى، أو اعتقاد أهل البدع، أو اعتقاد الفلاسفة الضالين، أو الجهمية، أو الباطنية، أو الصوفية المنحرفين، أو المعتزلة، أو الأشاعرة، فكل هذا زيغ، فاستعاذ بالله من الزيغ لنفسه ولك يا طالب العلم.

(والزلل) وهو نوع من الانحراف، وهو الزلل عن الحق، يعني: تخطي الحق، وتجاوز الحق، وعدم إصابة الحق.

وقوله: (وفقنا الله وإياكم لما يرضيه من القول والنية والعمل، وأعاذنا وإياكم من الزيغ والزلل)، جملة اعتراضية للدعاء، أراد بها المؤلف أن يدعو لطالب العلم.

(اعلم أن صالح السلف، وخيار الخلف، وسادة الأئمة، وعلماء الأمة، اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل)، والمراد بصالح السلف: الصحابة، والتابعون، (وخيار الخلف): وهم من تبعهم وسار على نهجهم من الأئمة والعلماء وأهل السنة والجماعة، وسادة الأمة، يعني: مقدمو الأئمة في الدين، فهو يقول: اعلم أن صالح السلف المتقدمين من الصحابة والتابعين، وخيار الخلف ومن تبعهم، ومقدم الأئمة وسائر علماء الأمة، كلهم اتفقت أقوالهم وتطابقت آراؤهم على الإيمان بالله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى واجب الوجود بذاته، وأنه موجود فوق العرش، وأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأنه المعبود بالحق، وأن غيره معبود بالباطل.

اتفق على هذا السلف والخلف والأئمة والعلماء.

وكذلك اتفقوا على الإيمان بصفاته وبأفعاله، والإيمان بربوبيته وألوهيته، وأنه المعبود بالحق.

ويدخل في الإيمان بالله عز وجل قوله: (وأنه أحد فرد صمد، حي قيوم سميع بصير)، فكل هذا داخل في الإيمان بالله.

فهو (أحد) يعني: واحد سبحانه وتعالى، لا نظير له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، (وفرد) وهو مثل أحد بمعناه، إلا أن فرداً لم ترد في النصوص، والذي ورد في النصوص أحد وصمد، وهذا من باب الخبر عن الله، ولا نعلم أن كلمة فرد من أسماء الله، ولكن من أسماء الله الأحد والصمد، والأحد كافية عن الفرد، ولكن زادها من باب الخبر.

(الصمد) هو: السيد الذي كمل في سؤدده، والذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، فهو كامل في نفسه، وهو سيد في نفسه، ولا يحتاج إلى غيره، وهو القائم بنفسه، المقيم لغيره سبحانه وتعالى.

ومن تفسير الصمد: هو الذي لا جوف له.

يعني: لا يأكل ولا يشرب.

والملائكة صُمد لا يأكلون ولا يشربون، والله أولى بذلك من المخلوقين.

فهو الصمد الذي لا يحتاج إلى أحد، قائم بنفسه، مقيم لغيره، كمل سؤدده، وصمدت إليه الخلائق في حوائجها، حي حياة كاملة أبدية لم يسبقها عدم، ولا يطرأ عليه ضعف ولا نوم ولا نعاس، بل حياته حياة كاملة مستمرة باقية أبد الآباد.

(قيوم): وهذا من أسمائه سبحانه وتعالى، أي: القائم بنفسه، المقيم لغيره، والحي القيوم: وصفان عظيمان، واسمان عظيمان ترجع إليهما جميع الأسماء والصفات، حتى قيل: إنه الاسم الأعظم، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥]، (سميع)، وهو من أسمائه سبحانه وتعالى، (بصير) قال سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فسميع: متصف بالسمع، فهو يسمع الأصوات ويدركها، ولا يخفى عليه شيء، وهو بصير يرى كل شيء، وهو سميع بسمع، وبصير ببصر، لا شريك له، وليس له شريك في أسمائه، ولا شريك له في صفاته، ولا شريك له في أفعاله، ولا شريك له في ألوهيته وعبوديته وعبادته، ولا شريك له في ملكه.

(ولا وزير)، والوزير هو: المعين، فليس له معين يعينه بخلاف المخلوق الضعيف، وملوك الدنيا لا يستغنوا عن الوزراء لكي يعينونهم ويساعدونهم، وأما الرب تعالى فلا يحتاج إلى وزير ولا يحتاج إلى أحد، بل هو كامل سبحانه وتعالى، بخلاف المخلوق الضعيف الذي يحتاج إلى الولد، ويحتاج إلى الزوجة لإعانته، ويحتاج إلى الوزير، ويحتاج إلى الأمير، ويحتاج إلى خادم.

(ولا شبيه له)، أي: لا أحد يشبهه، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، (ولا نظير) أي: ليس له نظير ولا مماثل ولا عدل، وكلها بمعنى: المثيل فليس له مماثل ولا مشابه، ولا نظراء ولا عدلاء ولا أمثال، بل هو سبحانه وتعالى لا يماثله أحد من خلقه، ولا يعدل به أحد من خلقه.

(وأنه عز وجل موصوف بصفاته القديمة التي نطق بها كتابه العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:٤٢] وصح بها النقل عن نبيه)، يعني: هو موصوف سبحانه بصفاته التي وصف بها نفسه في كتابه، أو وصفه بها رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصفات والأسماء توقيفية، فليس للعباد أن يخترعوا لله أسماءً وصفات من عند أنفسهم، ولهذا قال: (موصوف بصفاته القديمة التي نطلق بها كتابه، وصح بها النقل عن نبيه وخيرته من خلقه محمد سيد البشر عليه الصلاة والسلام، الذي بلغ رسالة ربه، ونصح لأمته، وجاهد في الله حق جهاده، وهذا وصفه عليه الصلاة والسلام، فهو بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، (وأقام الملة)، وهي: الدين، (وأوضح المحجة)، وهي: الطريق، (وأكمل الدين)، يعني: أكمل الله به الدين، ولو قال المؤلف: وأكمل الله به الدين لكان أحسن؛ لأن الذي يكمل الدين هو الله، وليس النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:٣]، ومقصود المؤلف بأكمل الدين يعني: أكمل الله به الدين.

(وقمع الكافرين)، يعني: قمع الله به الكافرين، فإن الذي قمع هو الله، فقمع الله الكافرين برسالته.

(ولم يدع لملحد مجالاً)، والملحد هو: المنحرف، الذي انحرف عن الصواب.

والإلحاد أقسام: فقد يكون إلحاد كفر؛ كالذي ألحد في توحيد الله، وفي أسمائه وصفاته، فهذا إلحاد يخرجه عن ملة الإسلام.

وقد يكون إلحاداً دون الكفر، كالإلحاد بالمعاصي وبالبدع، وكالإلحاد في نفي بعض الصفات وبعض الأسماء.

(فلم يدع عليه الصلاة والسلام لملحد مجالاً، ولا لقائل مقالاً)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بلغ الرسالة، ونصح الأمة، وأقام الملة، وأوضح المحجة، وكمل به الدين، ولم يترك لملحد مجالا، ولا لقائل مقالاً؛ لأن الشريعة كملت، وهي واضحة ليس فيها لبس، فلا مجال لملحد ولا مجال لقائل، يريد أن يزيد في هذا الدين أو ينقص منه، أو يحرف أو يئول.

<<  <  ج: ص:  >  >>