للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدلة على إثبات صفة الوجه من السنة النبوية]

واستدل من السنة بأدلة منها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الذي رواه الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنات الفردوس أربع: ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)، فقوله: (إلا رداء الكبرياء على وجهه) فيه إثبات الوجه، وفيه إثبات أن الله تعالى يُرى يوم القيامة، وفيه إثبات الكبرياء لله عز وجل، قال الله تعالى: {وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية:٣٧]، فهذا الحديث فيه إثبات ثلاث صفات: صفة الوجه، وصفة الرؤية، وصفة الكبرياء.

والرؤية سيتكلم عليها المؤلف رحمه الله بكلام خاص، فهي من الصفات التي اشتد النزاع فيها بين أهل السنة وبين أهل البدع.

قوله: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) هذا خاص بالمؤمنين، فالمؤمنون يرون ربهم سبحانه وتعالى في الجنة، وفي موقف القيامة يرونه أيضاً، وأما غير المؤمنين فقد اختلف العلماء في رؤيتهم لله في موقف القيامة، فمن العلماء من قال: يراه أهل الموقف كلهم مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفرة.

ومن العلماء من قال: إنه لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون؛ لأن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الدنيا، وجرت عليهم أحكام الإسلام، ويكونون معهم في الآخرة، ثم بعد ذلك ينفصل المؤمنون عن الكفار ويضرب بينهم بسور له باب.

وقال آخرون من أهل العلم: إنه لا يراه إلا المؤمنون وأما الكفار فإنهم يحجبون عن الله، قال الله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥].

والذين قالوا: إن الكفار يرونه يوم القيامة، قالوا: هذه الرؤية لا تفيدهم بل يزدادون بها عذاباً إذا حجبوا، مثل المسيء حينما يرى السلطان ثم يعاقبه فإنه لا يستفيد من هذه الرؤية إلا عقوبة.

وفيه إثبات الجنة وأن المؤمنين يتفاوتون في درجاتهم، فقوله: (جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما) هذا للمقربين السابقين، وقوله: (وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما) هذا لأصحاب اليمين كما قال الله تعالى في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:٤٦].

{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:٤٨].

{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:٥٠].

هذه للمقربين، ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن:٦٢] هذه لأصحاب اليمين {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن:٦٤] فهي أربع جنات، والمؤمنون يتفاوتون في درجاتهم في الجنة على حسب أعمالهم.

وفيه الرد على من أنكر وجود الجنة والنار من الجهمية والمعتزلة، ويقولون: إنهما لا توجدان إلا يوم القيامة، وأما الآن فهما عدم، وهذا من أبطل الباطل، فالله تعالى أخبر أن الجنة موجودة، والنار أعدت للكافرين، ويفتح للمؤمن في قبره باب إلى الجنة يأتيه من روحها وطيبها، والكافر يفتح له باب من النار يأتيه من حرها وعذابها، وأرواح المؤمنين تنعم في الجنة، وأرواح الكفار تعذب في النار، وفي الجنة الولدان والحور، وقول المعتزلة من أبطل الباطل، وكذلك الجهمية يقولون: إن الجنة والنار تفنيان جميعاً، وهذا من أبطل الباطل.

قال المؤلف رحمه الله: [وروى أبو موسى قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، ثم قرأ: {أََنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:٨]).

رواه مسلم].

هذا الحديث رواه الإمام مسلم كما قال المؤلف رحمه الله، ورواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده وابن ماجة في سننه والبيهقي في الأسماء والصفات.

وفي لفظ لـ مسلم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه)، ففيه أن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام؛ لأن النوم ضعف يحتاج إليه المخلوق الضعيف حتى يستريح، والله تعالى لا يتعب ولا يلحقه تعب، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] سبحانه وتعالى.

قوله: (يخفض القسط ويرفعه) القسط هو العدل.

قوله: (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النار)، وفي لفظ: (حجابه النور)، (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره)، وفي لفظ: (لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، ثم قرأ: {أََنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:٨]).

هذا الحديث استدل به المؤلف على إثبات صفة الوجه والشاهد من الحديث قوله: (لأحرقت سبحات وجهه) ففيه إثبات الوجه لله تعالى.

وفيه أن الله تعالى لا يراه أحد في الدنيا؛ لأنه احتجب عن خلقه سبحانه وتعالى بالنار أو بالنور، ولو كشف الحجاب لاحترق الخلق ولما استطاعوا أن يثبتوا لرؤية الله في الدنيا؛ ولهذا لما كلم الله موسى بدون واسطة من وراء حجاب طمع موسى عليه الصلاة والسلام في الرؤية فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:١٤٣]، قال الله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] أي: لا تستطيع ولا تتحمل الرؤية، ولكن انظر إلى الجبل، وهو جبل صخر عظيم، قال: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] أي: إن ثبت الجبل فأنت تستطيع أن تراني، وإلا فلا، فلما تجلى الله للجبل دُكَّ الجبل وساح وخر موسى صعقاً، أي: أغمي عليه، فلما أفاق موسى قال: سبحانك! تبت إليك وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك بشر في الدنيا إلا مات، ولا جبل إلا دُك؛ ولهذا كان الصواب أن نبينا صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في المعراج، وإنما كلمه الله من وراء حجاب، وفرض عليه الصلوات من وراء حجاب، ولا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا لا من الأنبياء، ولا من الملائكة ولا من غيرهم، فقد احتجب الله من خلقه، بالنار أو النور، وجاء في آثار أنه احتجب من خلقه بنار ونور وظلمة وثلج، فلا يستطيع أحد أن يرى الله ولا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية الله في الدنيا، ولو كشف الحجاب لاحترقوا، ولكن يوم القيامة ينشئ الله المؤمنين نشأة قوية يتحملون فيها رؤية الله، فينظر المؤمنون إلى ربهم يوم القيامة، فالمؤمنون ينشئون يوم القيامة نشأة قوية، فتتبدل الصفات والذات هي هي، الجسد هو الذي كان في الدنيا، يبلى كله في القبر إلا عجب الذنب، ثم يعيده الله إلى ما كان عليه، إلا أن الصفات تتبدل، فينشئ الله المؤمنين نشأة قوية يتحملون بها رؤية الله؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:٥١]، ويدخل في هذا القول كل البشر، ومنهم النبي عليه الصلاة والسلام فإنه بشر كلمه الله من وراء حجاب، وهذا هو الصواب.

وقال بعض أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره وهذا خطأ، والصواب: أنه رآه بقلبه ولم يره بعين بصره، وهذا ما عليه المحدثون والصحابة وغيرهم.

فهذا الحديث فيه تنزيه الله عن النوم، وفيه أن الله احتجب من خلقه بالنار أو بالنور، وفيه أن الله لا يراه أحد في الدنيا لقوله: (لأحرقت سبحات وجهه كل شيء).

ومحمد صلى الله عليه وسلم شيء، وفي اللفظ الآخر: (ما انتهى إليه بصره من خلقه) أي: جميع الخلق، ومحمد صلى الله عليه وسلم من الخلق، فلم ير ربه ليلة المعراج بعين رأسه وإنما رآه بعين قلبه، ولكنه سمع كلام الله من دون واسطة من وراء حجاب.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه صفة ثابتة بنص الكتاب وخبر الصادق الأمين، فيجب الإقرار بها، والتسليم كسائر الصفات الثابتة بواضح الدلالات].

صفة الوجه صفة ثابتة بنص الكتاب كما قال الله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:٨٨]، وبخبر الصادق الأمين؛ لذلك يجب التسليم والإقرار بها، ويجب على كل مسلم أن يقر بصفة وجه الله عز وجل كسائر الصفات الثابتة، خلافاً لمن أنكر الصفات كالجهمية والمعتزلة، فقد قالوا: ليس لله وجه ولا علم ولا سمع ولا بصر، وخلاف الأشاعرة الذين تأولوها بالذات، وبعضهم فوضها كـ البيهقي.

<<  <  ج: ص:  >  >>