للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[بيان أنواع الفرق التي ضلت في باب القدر]

وهذا الحديث أيضاً في إثبات القدر، واحتج به بعضهم على رفع الذم والعقاب عمن عصى الله، وهم الجبرية، وهذا باطل، وبعضهم قال: إن هذا الحديث يقتضي رفع الذنب والعقاب عمن عصى الله، وكلاً من الطائفتين قد ضلت سواء السبيل، وبعض المبتدعة -وهم الجبرية- استدلوا بهذا الحديث على الاحتجاج بالقدر، وقالوا: القدر حجة للعاصي، أي: العاصي أو الإنسان مجبور على أفعاله، فلا يلام عليها، وهذا من أبطل الباطل.

وطائفة أخرى رفعوا اللوم والذنب والعقاب عن العاصي، وهم القدرية، وطائفة رفعت اللوم والذنب دون العقاب عن العاصي واحتجوا بالقدر، وطائفة كذبت بالقدر وهم المعتزلة، وقالوا: إن الله تعالى لم يقدر أفعال العباد، وإنما العباد هم الخالقون لأنفسهم أفعالاً سواء أكانت خيراً أم شراً طاعة أم معصية، والله تعالى لم يخلق أفعال العباد! فلهذا إنما يلام ويعذب الإنسان على فعله.

وقابلتهم الجبرية فقالوا: إن الإنسان مجبور على أفعاله، ولهذا ألف شيخ الإسلام رحمه الله رسالة شرح فيها هذا الحديث، وقال: إن هذا الحديث ضلت فيه طائفتان: طائفة كذبت بالقدر لما ظنوا أنه يقتضي رفع الذنب والعقاب عمن عصى الله لأجل القدر، وطائفة شر من هؤلاء جعلوا القدر حجة، وقد يقولون: القدر حجة لأهل الحقيقة الذين شهدوه، وهم الصوفية الذين يسمون أنفسهم أهل الحقيقة، ولا يرون أن لهم فعلاً، بل يلغون أفعالهم ويجعلونها أفعالاً لله! ويقولون: إن الإنسان إذا شهد الحقيقة رفع عنه التكليف فلا يؤمر ولا ينهى، وصار من الخاصة الذين تجاوزوا مرتبة العامة، فلا تكليف عليهم! وهذا من أبطل الباطل، ومن قال: إن أحداً يسقط عنه التكليف وعقله معه -ما عدا الحائض والنفساء في الصلاة خاصة- فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، فلا يوجد أحد يسقط عنه التكليف، إلا إذا زال عقله كالصبي، والشيخ المخرف، والمجنون؛ هؤلاء مرفوع عنهم القلم، وأما من عداهم فلا، وكل واحد مكلف حتى يموت، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩]، فمن اعتقد أن أحداً يسقط عنه التكليف وعقله معه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتداً.

أما هؤلاء الجبرية والملاحدة كالصوفية وغيرهم فيرون أن الإنسان إذا تجاوز مرتبة العامة وصار من أهل الحقيقة وألغى صفاته وأفعاله، وجعلها صفات لله سقط عنه التكليف ويستدلون بقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:٩٩]، ولا يفسرون اليقين بالموت، بل المرتبة العلية عندهم التي يصل إليها بعضهم بزعمهم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: من الناس من يقول في هذا الحديث: إنما حاج آدم موسى لأنه أبوه، أو لأنه قد تاب، أو لأن الذنب كان في شريعة واللوم في شريعة أخرى؛ أو لأن هذا يكون في الدنيا دون الآخرة، وكل هذا باطل، والصواب أن موسى عليه الصلاة والسلام لام أباه لأجل المصيبة التي لحقتهم فقال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) لم يلمه لمجرد كونه أذنب ذنباً وتاب منه؛ فإن موسى يعلم أن التائب من الذنب لا يلام، وهو قد تاب أيضاً، ولو كان آدم يعتقد رفع الملام عنه لأجل القدر لم يقل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣] والمؤمن مأمور عند المصائب أن يصبر ويسلم، وعند الذنوب أن يستغفر ويتوب، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر:٥٥]، ولا يزال أهل العلم يبينون معنى هذا الحديث، ويردون على من لم يفهم هذا الحديث من المعتزلة الذين يقولون بخلق أفعال العباد، ومن الجبرية الذين يقولون: إن العباد مجبورون على أفعالهم، فالإمام ابن القيم رحمه الله قال: إن هذا الحديث فيه رد على من لم يفهمه من المعتزلة كـ أبي علي الجبائي ومن وافقه، وقال: لو صح لبطلت نبوة الأنبياء، أي: لو صح الاحتجاج بالقدر لبطلت نبوة الأنبياء، فإن القدر إذا كان حجة للعاصي بطل الأمر والنهي، فإن العاصي بترك الأمر أو فعل النهي إذا صحت له حجة في القدر السابق ارتفع اللوم عنه، وهذا من ضلال أهل البدع، وجهلهم بالله ورسوله وسنته.

<<  <  ج: ص:  >  >>