للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[موقف أهل البدع من صفة الرؤية]

الرؤية والكلام والعلو هذه الثلاث ينكرها الجهمية، والمعتزلة، أما الأشاعرة فهم يثبتون الرؤية دون مقابلة، ويقولون: إن الله يرى، لكن من أين يرى؟ يقولون: لا من تحت ولا أمام ولا خلف ولا يمين ولا شمال، وهذا لا يعقل؛ ولهذا أنكر جمهور العقلاء هذا على الأشاعرة وضحكوا منهم، وقالوا: كيف تثبتون الرؤية بدون مقابلة، وبداهة العقول تنكر هذا، والأشاعرة الآن مذبذبين بين المعتزلة وأهل السنة، فهم يريدون أن يكونوا مع أهل السنة في إثبات الرؤية ومع المعتزلة في نفي الجهة والعلو، فأثبتوا الرؤية ونفوا العلو، ولهذا ألزمهم المعتزلة فقالوا لهم: أنتم الآن مذهبكم مذبذب غير معقول، فأنتم بين أحد أمرين، إما أن تثبتوا العلو مع الرؤية، فتكونون أعداءً لنا مثل أهل السنة، وإما أن تكون رؤية وتكون واضحة، وكذلك صفة الكلام أثبتها الأشاعرة بقولهم: هو المعنى القائم بالنفس -مثل العلم- بلا حرف ولا صوت، وكما أن العلم في نفسه فالكلام في نفسه، وقالوا: اضطر جبريل اضطراراً ففهم المعنى القائم بنفسه تعالى فتكلم بهذا القرآن.

ومنهم من قال: إن الذي عبر عنه هو محمد لا جبريل، فهم ما أثبتوا الكلام على وجهه، وكذلك العلو.

وبهذا يتبين أن الرؤية ما أثبتها هؤلاء الطوائف الثلاث: الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وأجمع أهل الحق، واتفق أهل التوحيد والصدق: أن الله تعالى يرى في الآخرة) صدق رحمه الله، وأهل الحق وأهل التوحيد هم أهل السنة والجماعة وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام، والصحابة والتابعون والأئمة وأتباعهم، ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة إلى يوم القيامة، وقد اتفقوا على إثبات الرؤية لله -وخالفهم أهل الباطل- كما جاء في كتابه، وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الكتاب فدلهم عليه قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣].

قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:٢٢] بالضاد أخت الصاد؛ من النضرة والبهاء والحسن، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٣] بالظاء أخت الطاء، أي: تنظر إلى ربها، ووجه الدلالة: أن الله أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محله، وعزاه بأداته الصريحة التي هي العين، وأخلاه من قرينة تدل على خلاف موضوعه وحقيقته؛ فدل على أن المراد بها النظر بالعين التي في الوجه إلى الرب سبحانه، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:٢٢ - ٢٣].

والمؤلف رحمه الله اقتصر على آية واحدة وهناك أدلة أخرى تدل على الرؤية غير هذه الآية مثل قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:٣٥]، فالمزيد هو النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله سبحانه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:٢٦]، جاء في صحيح مسلم بأن الزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، وقوله سبحانه: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥] أي: الكفار، قال الشافعي رحمه الله: فلما احتجب عن الكفار دل على أن أولياءه يرونه سبحانه إذ لو كان المؤمنون لا يرونه لتساوى الأعداء والأولياء، {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:١٥] فالآية فيها إثبات الرؤية للمؤمنين.

<<  <  ج: ص:  >  >>