للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات أن كلام الله بصوت والرد على المخالفين]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة -وأشار بيده إلى الشام- عراة غرلاً بهماً.

قال: قلت: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه.

قالوا: وكيف وإنما نأتي الله عراة غرلاً بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات)، رواه أحمد وجماعة من الأئمة].

هذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله في المسند، ورواه البخاري رحمه الله في الأدب المفرد، والحاكم في المستدرك، والخطيب البغدادي وغيرهم، وهو حديث مشهور ويسمى حديث المظالم.

والبخاري رحمه الله رواه معلقاً في الصحيح فقال: رحل جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس في طلب الحديث الواحد.

والحديث الذي رحل من أجله هو حديث المظالم هذا.

وهذا فيه الرحلة في طلب العلم، ولهذا رواه البخاري في الرحلة لطلب العلم، حيث رحل جابر بن عبد الله من المدينة إلى عبد الله بن أنيس في الشام في طلب الحديث الواحد، واشترى بعيراً لهذه المهمة.

فعلماء الصحابة ومن بعدهم كان لهم عناية في طلب الحديث، وكانوا يتحملون المشاق، وقد استغرقت إحدى الرحلات شهراً، وهي رحلة من المدينة إلى الشام، فلما وصل إليه طرق عليه الباب، فلما خرج عبد الله بن أنيس قال جابر بن عبد الله: حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في المظالم خشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فذكر الحديث.

والشاهد من الحديث قوله: (فيناديهم بصوت)، فيه إثبات الصوت، أي أن كلام الله بصوت يسمع.

وفيه الرد على الأشاعرة والكلابية والجهمية والفلاسفة الذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس، إلا أن الكلابية يقولون: الكلام أربع معانٍ في نفسه هي: الأمر والنهي والخبر والاستفهام، والأشاعرة يقولون: هو معنى واحد لا يتعدد ولا يتجزأ ولا يتفسر ولا يتنوع، بل هذا التنوع هو صفات له، إن عبرت عنه بالعربية فهو القرآن، وإن عبرت عنه بالعبرانية فهو التوراة، وإن عبرت عنه بالسريانية فهو الإنجيل، وإن عبرت عنه بالداودية فهو الزبور، فهو شيء واحد، هكذا يقول الأشاعرة؛ وعندهم هو واحد لكن له صفات، ويمثلون لذلك بالإنسان، فالإنسان له صفات متعددة، فأنت أب بالنسبة لأبنائك وابن بالنسبة إلى آبائك وأجدادك، وأنت عم بالنسبة إلى أبناء أخيك، وأنت خال بالنسبة إلى أبناء أختك، فأنت واحد وتوصف بأنك أب وابن وعم وخال، فكذلك الكلام معنى واحد يوصف بأنه توراة وإنجيل وقرآن؛ فالتنوع هو في العبارات والدلالات لا في المدلول، وكلهم يقولون: الحروف والأصوات دليل على القرآن وليست هي قرآناً، إلا أن الكلابية يسمونها حكاية، والأشاعرة يسمونها عبارة.

والفلاسفة يقولون: ليس الكلام حرفاً وإنما هو معنى يفيض من العقل الفعال على النفس الشريفة، فيحصل لها تصورات بحسب ما قبلته منه.

فهذا الحديث فيه رد على جميع هؤلاء الطوائف.

والفلاسفة يقولون: ليس الكلام حرف، وإنما هو معنى يسير من العقل الفعال على النفس الشريفة، فيحصل له من التصورات والتصديقات بحسب ما قبلته من ذلك، فهذا الحديث فيه رد على هذه الطوائف من الكلابية والأشاعرة والفلاسفة الذين ينكرون أن يكون كلام الله بالصوت، وهذا حديث صريح حيث قال: (فيناديهم بالصوت).

وأصح ما ثبت في الصحيح: (أن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة بالصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) وينادي آدم فيقول: (لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار)، وهذا فيه إثبات الصوت.

والحديث فيه: (يحشر الناس يوم القيامة) وأشار بيده إلى الشام؛ لأنه مكان المحشر (غرلاً بهماً عراة لا ثياب عليهم) وغرلاً جمع الأغرل وهو الأقلح، والغرلة: القلفة، يعني: غير مختونين، والأغرال: غير المختونين، أي لم تزل عنهم الجلدة التي تقطع من الصبي وهو صغير.

فالناس ترجع إليهم يوم القيامة، فيكونون غير مختونين، عراة لا ثياب عليهم، حفاة، وفي اللفظ الآخر: (لا نعال عليهم).

وقوله: (بهماً) أي: ليس معهم شيء، ويكون القصاص هناك بالحسنات والسيئات (فيناديهم الرب سبحانه وتعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى أقصه منه، قالوا: وكيف يكون القصاص؟) أي: ليس عندنا شيء، لا دراهم، ولا فضة، ولا ذهب، ولا أوراق نقدية، ولا أمتعة فكيف يكون القصاص؟ فقال: (بالحسنات والسيئات) أي: أن القصاص هناك يكون بالحسنات والسيئات.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة على الصفوان فيخرون سجداً).

وذكر الحديث].

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رواه البخاري تعليقاً في كتاب التوحيد، يقول عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة على الصفوان فيخرون سجداً).

وله شواهد.

وأخرج نحوه في كتاب التفسير في قوله: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر:١٨] باب: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:٢٣].

وفيه وجهان لإثبات الصوت لكلام الله حيث قال: سمع صوته أهل السماء وهذا وجه، والوجه الثاني قوله: وأن كلام الله بصوت يسمع.

وفيه الرد على من أنكر الصوت من الكلابية والأشاعرة والفلاسفة وقوله: (كجر السلسلة على الصفا) سلسلة الحديد على الصفا أو الصفوان، والصفوان: الحجر الأملس، وهذا من باب التقريب، وليس فيه تشبيه صوت الله بصوت السلسلة، وإنما المعنى أن كلام الله يسمع بصوت، كما يسمع صوت السلسلة، وهو كقوله في الحديث الآخر: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر)، فليس في هذا تشبيه لله بالقمر، وإنما تشبيه للرؤية بالرؤية، وهنا تشبيه للصوت بالصوت، يعني: كما أن الصوت المسموع من السلسلة يكون قوياً، فكذلك الصوت المسموع من كلام الله يكون قوياً، وإلا فصوت الله لا يشبه صوت المخلوقين.

<<  <  ج: ص:  >  >>