للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الإيمان بملك الموت وفقء موسى عينه وذبح الموت يوم القيامة]

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه السلام فصكه ففقأ عينيه كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله ورسوله.

ونؤمن بأن الموت يؤتى به يوم القيامة فيذبح، كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:٣٩])].

يقول المؤلف رحمه الله: ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فصكه ففقأ عينه كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ثابت في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء صكه ففقأ عينه).

وهذا ثابت؛ لأن أهل السنة والجماعة يؤمنون بما ثبت في كتاب الله وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال المؤلف: لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله ورسوله، فهؤلاء المبتدعة والملاحدة لا يؤمنون إلا بما تهواه عقولهم، تجدهم يطعنون في الأحاديث الصحيحة ويؤولونها بتأويلات باطلة، والواجب على المسلم التصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه اعتقاده؛ لأن ذلك من الإيمان بالغيب الذي أطلع الله عليه رسوله، ولهذا نقل النووي عن المازري أنه قال: (وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث) حديث أن موسى صك ملك الموت ففقأ عينه، قال: (فقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكروا تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقأ عين ملك الموت؟ وأجاب بعض العلماء عن هذا بأجوبة: أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام قد أذن الله له في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحاناً للملطوم، والله سبحانه يفعل في خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد، أو أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه، فدافعه عنها فأدت المدافعة إلى فقء عينه لا أنه قصدها بالفقأ، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين.

وقال ابن قتيبة: (لما تمثل ملك الموت لموسى عليه السلام وهذا ملك الله وهذا نبي الله، وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينتقص منه شيء).

نحن نؤمن بأن موسى عليه الصلاة والسلام صك عينه، ومن المعلوم أن الملك أعطاه الله قدرة على التشكل والتصور، قال تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:١]، جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صور متعددة، كان يأتي في صورة دحية الكلبي وكان رجلاً جميلاً، وجاء في صورة رجل أعرابي يسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ورآه في الصورة التي هو عليها مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء له أجنحة، فالملك أعطاه الله قدرة على التشكل.

والأقرب والله أعلم أنه ما علم أنه ملك، كما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جاءته الملائكة في صورة رجال ولم يعلم أنهم ملائكة في صورة رجال، وجاء بهم إلى بيته يظن أنهم ضيوف، ومال إلى أهله سريعاً وجاء بعجل سمين، وشوى لهم العجل وقدمه إليهم، لكنهم لم يمدوا أيديهم إليه، فخاف منهم، وأنكر أنهم لا يأكلون! وإذا الضيف لم يأكل فهذا يُخشى أن يكون جاء لشر، فقالوا: نحن الملائكة لا نأكل ولا نشرب، أخبروه وجاءوه في صورة لم يعرفهم فيها، وجاءوا إلى لوط، ولم يعلم لوط أيضاً أنهم ملائكة في صورة رجال، فليس ببعيد أن يكون ملك الموت أتى موسى ولم يعلم أنه ملك.

يقول المؤلف: كما صح عن النبي لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله وعن رسوله، ونؤمن بأن الموت يؤتى به يوم القيامة فيذبح، كذلك أنكر هذا بعض أهل البدع، قالوا: كيف يذبح الموت والموت أمر معنوي؟! نقول: إن هؤلاء هم العقلانيون الذين لا يؤمنون إلا بما تهواه عقولهم، ويتأولون النصوص فهؤلاء يتبعون أهواءهم، والواجب على المسلم أن يؤمن بما ثبت في كتاب وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله قادر على جعل المعاني أجساماً وعلى قلب الأعراض أجساماً، {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:٢٨٤]؛ ولهذا ثبت في الحديث الذي رواه الشيخان الذي ذكره المؤلف رحمه الله في حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون) يشرئبون: يعني: يمدون أعناقهم ويرفعون رءوسهم بالنظر، فيقول: (هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى: يا أهل النار! فيشرئبون ينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت)، وهذا بعد خروج العصاة من النار، وجاء في اللفظ الآخر: (فيزداد أهل الجنة نعيماً إلى نعيمهم، ويزداد أهل النار حسرة إلى حسرتهم)، نعوذ بالله.

(ثم قرأ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [مريم:٣٩]) والحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله ورواه غيرهما، رواه الترمذي وأحمد في المسند والآجري في الشريعة، قال الترمذي: والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم، أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا: نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت، ويؤمن بها ولا تفسر ولا نتوهم، ولا يقال: كيف! يعني: لا تفسر التفسير المخالف لظاهرها، وهذا عمل أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه.

ومعنى قوله: لا تفسر أي: لا يكتب لها تفسير مخالف لمعناها، يقصدون عدم تفسيرها بخلاف ظاهرها الذي تدل عليه.

<<  <  ج: ص:  >  >>