للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[خلاف العلماء في رؤية النبي لربه ليلة المعراج]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:١٣ - ١٤].

قال الإمام أحمد فيما رويناه عنه: وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيح رواه قتادة وعكرمة عن ابن عباس.

ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، والحديث على ظاهره كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والكلام فيه بدعة، ولكن نؤمن به كما جاء على ظاهره ولا نناظر فيه أحداً.

وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله عز وجل اصطفى إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالكلام، واصطفى محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية.

وروى عطاء عن ابن عباس قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين.

وروي عن أحمد رحمه الله أنه قيل له: بم تجيب عن قول عائشة رضي الله عنه: من زعم أن محمداً قد رأى ربه عز وجل الحديث؟ قال: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي عز وجل).

وفي حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فرجعت إلى ربي وهو في مكانه)، والحديث بطوله مخرج في الصحيحين، والمنكر لهذه اللفظة راد على الله ورسوله].

هذا مبحث رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، ولم يختلف العلماء أنه لم ير أحد ربه في الدنيا، فأهل الحق مجمعون على أنه لم ير أحد ربه في الدنيا، وأنه لا يستطيع أحد أن يرى ربه في الدنيا، ولما سأل موسى الرؤية: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:١٤٣] فلا يستطيع أحد أن يرى الله في الدنيا؛ لأن الله احتجب عن خلقه بالنور ولو كشفه لاحترق الخلق كلهم، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم: (لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

ولا عبرة ببعض الصوفية الذين يزعمون أنه يمكن أن يرى الله في الدنيا، أو الصوفية الملاحدة الذين يزعمون أن الله موجود في الأرض في كل خضرة، لكن أجمعت الأمة قاطبة ما عدا هؤلاء على أنه لم ير أحد ربه في الدنيا ما عدا نبينا صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على أنه لم يره في الأرض، وإنما اختلفوا هل رآه ليلة المعراج فوق السموات، أو لم يره على قولين: القول الأول: أنه رآه وهذا هو الذي اختاره المؤلف، ولهذا قال: وأنه رأى ربه عز وجل، فالحافظ عبد الغني يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه ليلة المعراج وهذا من خصائصه، وذهب إلى هذا أيضاً بعض العلماء كـ النووي أيضاً في شرح صحيح مسلم وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والقاضي عياض وأبو الحسن الأشعري وأبو إسماعيل الهروي كلهم ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج في السماء بعيني رأسه.

واستدلوا أيضاً على هذا -وهو رواية عن الإمام أحمد - بما ثبت عن ابن عباس أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وكذلك أيضاً: روي عن الإمام أحمد أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه.

واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:١٣]، وقوله: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:١٢]، {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:١٧ - ١٨].

فقالوا: إن النبي رأى ربه بعين رأسه.

القول الثاني: وهو قول جمهور العلماء وجمهور الصحابة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعين رأسه وإنما رآه بعين قلبه، وهذا الذي عليه الجماهير هو الصواب كما سيأتي، والأدلة عليه كثيرة، ومن أصرحها ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي ذر رضي الله عنه: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً)، وفي لفظ: (نور أنى أراه)، أي أن النور حجاب يمنع من رؤيته، يعني: كيف أستطيع رؤيته والنور حجاب يمنعني من رؤيته.

واستدلوا بحديث أبي موسى الأشعري عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور -وفي لفظ: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).

فقوله: (من خلقه) هذه عامة، ومحمد من خلقه فيشمله هذا، أي: لو كشف الحجاب لاحترق الخلق كلهم ومنهم محمد عليه الصلاة والسلام، ومنها أيضاً: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:٥١]، هذه الآية تدل على أنواع الوحي الثلاثة، ومحمد كلمه الله بدون واسطة، لكن من وراء حجاب، فهو محجوب عن الرؤية في الدنيا، فلا يستطيع أحد أن يرى الله تعالى.

ولأن الرؤية نعيم ادخره الله لأهل الجنة، وهي أعظم نعيم.

وأما الأدلة التي استدل بها القائلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه، فليست صريحة ولا واضحة، أما قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:١٢ - ١٣]، فالمراد بهذه الرؤية رؤية جبريل، لقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:٥ - ٨] هذا جبريل، {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:٩ - ١١]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:١٣] رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها مرتين: مرة في الأرض في بدء الوحي، ومرة في السماء عند سدرة المنتهى.

ولأن الله تعالى قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:١] يريه الآيات، ولو كان أراه نفسه لذكر ذلك لأنه أعظم، لكنه قال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:١]، ولم يقل: ليراني، أو لأريه نفسي.

وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سئل: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قال: نعم، فهذا جواب مطلق، وفي رواية أنه قال: رآه بفؤاده، فالمطلق يحمل على المقيد، فقوله: (نعم) يحمل على أنه رآه بقلبه.

وكذلك روي عن الإمام أحمد أنه قال: رآه، وروي عنه أنه قال: رآه بفؤاده، فيحمل المطلق على المقيد، ولم يقل ابن عباس: إنه رآه بعين رأسه، وكذلك الإمام أحمد لم يقل ذلك فالروايات يفسر بعضها بعضاً، فرواية (رآه) تفسرها رواية (رآه بفؤاده)، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون والجماهير، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج بعين رأسه وإنما رآه بفؤاده.

وثبت عن عائشة رضي الله عنها أنه سألها مسروق: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: (لقد وقف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب)، وفي لفظ أنها قالت: (فقد أعظم على الله الفرية)، وهذا هو الذي عليه المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما قالوا: إن الجمع بين النصوص التي فيها أنه رآه تحمل على رؤيته بقلبه، والنصوص التي فيها أنه لم يره تحمل على أنه لم يره بعين رأسه وبهذا تجتمع الأدلة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:١٣ - ١٤]].

إذاً: المؤلف أثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، والدليل الذي قاله المؤلف لا يدل على ما استدل به؛ لأن هذا في رؤية جبريل، قال تعالى في سورة النجم: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:١٣] يعني: رأى النبي جبريل مرة ثانية، مرة في الأرض وأخرى في السماء، وبهذا لا تكون الآية دليلاً لما ذهب إليه المؤلف من أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه.

الدليل الثاني: استدل المؤلف بقول الإمام أحمد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: قال الإمام أحمد فيما رويناه عنه: وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه عز وجل، فإنه مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو صحيح، رواه قتادة وعكرمة عن ابن عباس، ورواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن

<<  <  ج: ص:  >  >>