[الجمع بين الروايات التي وردت في ذكر مسافة طول الحوض وعرضه]
هذه المسافات التي ذكرناها متقاربة، وهي تدل على أن المسافة نصف شهر تقريباً أو أزيد بقليل أو أنقص بقليل، فهذه نصوص تدل على أن مسافة الحوض شهراً كاملاً، ونصوص أخرى تدل على أن مسافة الحوض نصف شهر فكيف يمكن أن نجمع بين هذه النصوص؟ جمع بينها أهل العلم بطرق متعددة من الجمع نذكر منها: القول الأول: جمع القاضي عياض رحمه الله في شرحه لـ مسلم؛ حيث قال: إن هذا الاختلاف هو اختلاف في التقدير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كل موضع يحدث فيه عن الحوض، يضرب لهم -يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- مثلاً ببعد أقطار الحوض وسعته بما يسنح له من العبارة.
فعند القاضي عياض ليس المقصود هو التحديد، وإنما المقصود هو مجرد التقدير وبيان السعة فقط، ولهذا قد يذكر بعض الأحيان أن مسافته مسافة شهر، وبعض الأحيان يذكر أقل، بحسب ما سنحت له العبارة، هذا جمع القاضي عياض رحمه الله، ولا شك أن في هذا نظراً، فإن ضرب المثل لا يكون تارة بشيء كثير وتارة بشيء قليل، وإنما يمكن أن يعبر بأنواع متعددة منه، لكن تجتمع في المقدار، فهذا القول فيه ضعف.
القول الثاني في الجمع: هو أن هذا الاختلاف هو لاختلاف الطول والعرض، قالوا: إن بعض الروايات جاءت في الطول وبعضها جاءت في العرض، فما جاء من الروايات أنه يساوي مسيرة شهر فهذا المقصود به الطول؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق:(أن طوله مسيرة شهر)، وما جاء أقل من ذلك فهو في العرض، وهذا جمع بين الأدلة، ولا شك أن هذا أيضاً فيه نظر؛ لأنه سبق أن ذكرنا أن طوله وعرضه سواء.
القول الثالث: هو أن الفرق بين هذه وتلك هو في مسألة السير البطيء والسير السريع، قالوا: إنه إذا نظر إلى السير السريع يكون التقدير ما بين أيلة إلى صنعاء، وإذا نظر إلى السير البطيء يكون أقل من ذلك، لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأن ظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد التفريق بينهما بالسير، وهذا جمع فيه تكلف.
لكن الجمع الصحيح هو ما ذكره النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: فإن النووي رحمه الله عندما أراد الجمع بين هذه النصوص قال: إن الأحاديث التي ورد فيها ما بين أيلة إلى الجحفة مثلاً أو ما بين مكة إلى عمان، هذه المسافات القصيرة لا تخالف المسافات الطويلة، فإن المسافة الطويلة تشمل القصيرة وزيادة.
وبناءً على هذا فيكون المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بداية الأمر يظن أن الحوض من أيلة إلى الجحفة، ثم بعد ذلك أخبر أنه أكثر، وليس هناك تعارض بين الأكثر والأقل، فإن الأقل يدخل في الأكثر، وهذه المسألة تشبه مسألة العام والخاص، فإن العام يشمل الخاص وزيادة، وكذلك الأكثر يشمل الأقل وزيادة، وهذا أيضاً ما رجحه الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو اختياره، وقال: إنه أقرب إلى الصواب.
لكن يبقى أن نشير إلى أنه ورد في بعض الأحاديث في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن مسافته:(كما بين جرداء وأذرح) وجرداء وأذرح هي قريتان في الشام متقاربتان، يذكر أن بينهما مسافة ثلاثة ليال أو ثلاثة أيام، لكن هذه الرواية التي في البخاري بين الضياء المقدسي في كتابه الذي جمع فيه أحاديث الحوض أن فيها غلطاً، واستدل على وجود الغلط برواية أخرى ساقها بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضه مثل ما بينكم -يعني: في المدينة- وبين جرداء وأذرح)، وحينئذ فتكون رواية ابن عمر:(أنه ما بين جرداء وأذرح) غلط، وإنما الصحيح أنها:(ما بين المدينة إلى جرداء وأذرح)، فتكون متفقة مع بقية الروايات الأخرى، يقول المقدسي رحمه الله: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذف تقديره: (كما بين مقامي وبين جرداء وأذرح)، فسقط قوله:(مقامي وبين)، ودل على ذلك رواية أبي هريرة السابقة.