لكن الشيخ أخطأ في مسألة مهمة وهي قوله:(ولا نكفر أحداً من المسلمين بذنب ما لم يستحله) فجعل قوله (بذنب) عاماً، والصحيح أن الذنوب على نوعين: ذنوب مكفرة، فهذه لا يشترط فيها الاستحلال، وذنوب ليست بمكفرة، وهذه لا يكفر صاحبها إلا إذا استحل.
ومن الذنوب المكفرة ما لا يشترط أن يكون صاحبها مستحلاً لها؛ لأنها هي كفر في ذاتها، مثل الطواف حول القبور والنذر لها والذبح، ومثل دعاء غير الله سبحانه وتعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومثل السجود للصنم، ومثل القوانين الوضعية، ونحو ذلك فذلك كله من جملة المكفرات التي لا يشترط فيها الاستحلال، لكن بقية الذنوب والمعاصي لا يكفر صاحبها إلا إذا استحل مثل الزنا وشرب الخمر وقتل النفس ونحو ذلك، فهو على الإيمان وعلى الإسلام إلا إذا استحل ذلك الفعل.
وفي قصة قدامة بن عبد الله رضي الله عنه - وكان صحابياً جليلاً - أنه كان هو وبعض الصحابة استحلوا شرب الخمر ورأوا أنه حلال، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[المائدة:٩٣] فقالوا: ليس علينا جناح في أن نشربها ما دمنا متقين، فاستحلوا شرب الخمر، فاستتابهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال لـ قدامة: أخطأت استك الحفرة، إنك إذا اتقيت لا تشرب الخمر، فأجمع الصحابة على أنهم يستتابون فإن لم يتوبوا يقتلون، وهذا ما أفتى به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واتفق عليه الصحابة جميعاً، والسبب في ذلك أنهم استحلوا المحرم، فالله عز وجل يحرم شيئاً وهم يقولون: هو حلال، وهذا فيه تكذيب، إلا إذا كان عند الإنسان شبهة فإنها تزال، تزال عن طريق الاستتابة، كما فعل الصحابة مع قدامة بن عبد الله ومن كان معه، فإن ترك صاحبها ورجع إلى حكم الله عز وجل فإنه يكون مسلماً ولا يكون كافراً، فإن عاند فهو كافر.
ولهذا لا بد أن يفرق الإنسان في الذنوب بين أمرين: الأمر الأول: من يفعل الذنب، والأمر الثاني: من يستحل الذنب، فمن يفعل الذنب هذا لا يعتبر كافراً، لكن من يستحل الذنب هذا يعتبر كافراً حتى ولو لم يفعل الذنب، ولو أنه رأى أنه حلال؛ فهذا يعتبر - والعياذ بالله - كافراً حتى لو لم يفعله، ولهذا من الأمور الخطيرة حقيقة أن يأتي إنسان فيستحل المحرمات بهذه الطريقة، وهذا لا شك أنه مكفر من المكفرات.
فقول الشيخ:(ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب)، جعل الذنب هنا عاماً، فهو يشمل الذنوب المكفرة وغير المكفرة، والحقيقة أن الذنوب المكفرة لا يشترط فيها الاستحلال، ولهذا ما كان ينبغي أن تكون العبارة بهذه الطريقة، ولو كانت العبارة: لا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب ما لم يستحله، لكان هذا أصوب، ولكان هذا أدق.
لكن المشكلة هي أن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله طريقته هي طريقة مرجئة الفقهاء، وطريقة مرجئة الفقهاء - كما سبق - هي تأخير العمل عن مسمى الإيمان، وحينئذٍ يصبح الكفر عندهم هو مجرد التكذيب فقط، والاستحلال تكذيب، وحينئذٍ يمكن أن يتبين لنا أثر تأخير العمل عن الإيمان في مسألة التكفير، فإذا أخر الإنسان العمل عن الإيمان أصبح لا يكفر بالذنوب المكفرة في الحقيقة إلا إذا استحل، وهذه هي الطريقة التي أتخذها أبو جعفر الطحاوي ومن معه من مرجئة الفقهاء مثل ابن أبي العز وغيره.