الأمر الثالث الذي يترتب على هذه القضية: أن الكفر عند هذه الفرق أصبح محصوراً بالتكذيب، فأولاً الإيمان نقيضه الكفر، والإيمان عندهم هو التصديق، والكفر عندهم هو التكذيب فقط، فكما أن الإيمان هو التصديق فقط فالكفر هو التكذيب فقط، بينما أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والكفر كذلك قولي وعملي، وحينئذٍ اختلفت هذه الطوائف مع أهل السنة في قضايا كثيرة، فأهل السنة يقولون: هذا كفر، وهم يقولون: لا، ليس بكفر، وحينئذٍ أدخلوا طائفة كبيرة من المرتدين في الإسلام؛ بسبب هذا القول الذي جاءوا به.
فمثلاً: قالوا: الذي يتولى عن الطاعة ولا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ولا يخاف ولا يرجو هل هذا مسلم؟ عندهم مسلم، لكن عند أهل السنة هذا مشرك كافر ليس بمسلم، وحينئذٍ يختلفون في مثل هؤلاء.
وأكبر قضية اختلفوا فيها هي قضية الصلاة، فأهل السنة يرون أن تارك الصلاة ليس بمؤمن وأنه كافر في الدنيا وفي الآخرة إذا ترك الصلاة تركاً كلياً، بينما يرى المرجئة أنه مسلم، وأنه مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه مصدق، وإنما غاية ما هنالك أنه ترك الصلاة، فانظروا ما يترتب على هذا في المجتمع؟ يترتب على هذا في المجتمع: أن أهل السنة يعتبرون كل من ترك الصلاة كافر، ويتعاملون معه تعامل الكفار، ويستتيبونه فإن تاب وإلا قتل، وحينئذٍ كثير من هؤلاء الذين يتركون الصلاة في ميزان أهل السنة كفار، وفي ميزان المرجئة مسلمون، وهذا خلاف شنيع وليس خلافاً سهلاً.
واختلفوا كذلك في قضايا الواقع المعاصر، فمثلاً: اختلفوا في القوانين الوضعية، والقوانين الوضعية جاءت لما ابتلي أهل الإسلام في الأزمان المتأخرة باستيلاء الكفار على بلاد المسلمين عسكرياً وعملياً، وأصبح الكفار هم الذين يديرون شئون المسلمين، وجاءوا بقوانينهم، وجاءوا بدساتيرهم، وقرروها على المسلمين، ثم لما خرجوا خروجاً صورياً وبقيت كثير من دساتيرهم وقوانينهم في حياة المسلمين اختلف فيها الإسلاميون: ما حكم هذه القوانين؟ وما حكم تطبيقها على الناس؟ أما أهل السنة فقالوا: هي كفر بالله رب العالمين، والسبب في ذلك: أنها مناقضة للعمل ومناقضة للالتزام بالإيمان بالله عز وجل، فالله عز وجل كما له الخلق له الأمر، والأمر الذي له أمر كوني وأمر شرعي، فالذي يسن للناس الشرائع والذي يقرر لهم قواعد التعامل في حياة الناس هو الله عز وجل، فإذا جاء أحد وقال: لا؛ الذي يسن للناس الشرائع هو أنا، وأطاعه قوم فقد اتخذوه رباً، نحن كما قال الله عز وجل:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة:٣١] جاء تفسيرها في حديث عدي بن حاتم -وإسناده حسن حسنه الشيخ الألباني - لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! نحن لا نعبدهم، فقال:(أفلا يحلون لكم الحرام فتتبعونهم؟ قال: بلى، قال: ألا يحرمون عليكم الحلال فتتبعونهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم)، فهذا هو الحاصل في القوانين الوضعية، فمثلاً: الله عز وجل يشرع حكم الزنا سواء للمتزوج أو لغير المتزوج فيأتي هذا ويلغي هذا الحكم، ثم يشرع للناس حكماً جديداً ويطبقه عليهم ويلزمهم بالتعامل معه.
وأقول: اختلف في هذه القضية الحساسة والخطيرة أهل السنة من جهة والمرجئة من جهة أخرى، فأهل السنة قالوا: هذا كفر، والمرجئة قالوا: هذا ليس بكفر؛ لأن الذي عمل هذا العمل ليس بمكذب، ولا يكون الإنسان عندهم كافراً إلا إذا كذب الله مباشرة، فإذا كذب الله فيكون كافراً، وأما إذا كان مصدقاً يقول: الله حق والرسول حق، لكن غير شرائع الناس وألزمهم بشرائع كفرية فعندهم لا يكفر ما دام أنه مصدق، وهذه القضية من أخطر القضايا التي يواجهها كثير من المسلمين.