[ضرورة الموازنة بين الخوف والرجاء]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم، ولا نقنطهم، والأمن واليأس ينقلان عن ملة الإسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة].
وهاتان الفقرتان فيهما التأكيد على عملين من أعمال القلب وهما: الخوف والرجاء، ولا بد أن يكون الخوف مع الرجاء، وأن يكونا كالجناحين للطائر، كما ذكر ذلك الأئمة.
وقوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة) يدل على ذلك قول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:٥٧] فجمع في هذه الآية بين الخوف والرجاء.
ولهذا صح عن مكحول وغيره من السلف أنهم كانوا يقولون: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري - يعني: من الخوارج -، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئي، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف والرجاء والحب فهو الموحد.
رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) وإسناده صحيح.
ولا شك أن تغليب الخوف على الرجاء يوصل إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، وتغليب الرجاء على الخوف يوصل إلى الأمن من مكر الله، وتغليب المحبة على الخوف والرجاء يوصل إلى ترك طلب الجنة، ولهذا صرح بعض الصوفية فقال: إننا لا نطلب من الله عز وجل الجنة، ولا نعبد الله عز وجل طلباً للجنة وخوفاً من النار، وإنما نعبده محبة فيه، وهذا خطأ، وهو من الضلال، ولهذا يقول الله عز وجل عن الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:٩٠] رغباً يعني: رغبة في الجنة، ورهباً يعني: خوفاً من النار، وهم أكمل الموحدين، والأنبياء أكمل الأولياء.
فالشاهد من هذا هو: أن الخوف والرجاء والمحبة لا بد أن تكون متوازية، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يسمون غلاة الصوفية زنادقة، ولهذا قال مكحول: ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق؛ لأن أصل دين التصوف ليس من ملة الإسلام، فأصل دين التصوف الذي عليه غالب المتصوفة المتأخرين ليس من دين الإسلام، وإنما أصله دين هندي كان موجوداً في الهند، وكان أولئك الهنود يريدون أن يصلوا إلى الكشف عن طريق بعض الرياضات التي يقومون بها، فكان بعضهم يقف على رأسه وقتاً طويلاً، وبعضهم يتعرض للشمس، وبعضهم يتعرض للهواء البارد، وبعضهم يجري في الصحراء ويعيش مع الوحوش ونحو ذلك! وكانوا يدعون أنهم إذا قاموا بهذه الرياضات التي عندهم فإنهم يصلون إلى مرحلة من الكشوفات، وتأتيهم بعض الروحانيات، والهنود الذين كانوا على هذا الدين وثنيون، وكانوا هؤلاء يسمون عند الهنود ثيوصوفية.
وقد ذكرهم البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في الذهن أو مرذولة)، ذكر دينهم وطريقتهم ومنهجهم، وهذا هو نفسه الذي يقرره الشعراني في كتابه (الأنوار القدسية)، فإنه عندما يذكر الرياضة التي توصل الإنسان إلى الكشف الذي هو الغاية عندهم الذي يطلبونه ويتمنونه ذكر من الرياضات عندهم ما تشبه رياضات الهنود، مثل: الوقوف على الرأس والتعرض للشمس ونحو ذلك من إيذاء البدن؛ لأنه كانت عندهم فلسفة المسألة، وهي: أن البدن إذا أوذي وأتعب ترتفع الروح، لكن إذا لم يؤذ البدن وإنما غلب الجانب الجسدي في الإنسان فإن الروح تكون ضعيفة ومنخفضة، وهذا هو أصل دين البوذية الذين يقولون: إنه بالرياضات يمكن أن نصل إلى مرحلة النربانا.
الشاهد من الموضوع هو: أن السلف كانوا يسمون هؤلاء زنادقة، والذي يقرأ في طبقات الشعراني عن بعض كرامات هؤلاء يجد عجباً، فمثلاً: يذكر من كراماتهم فيقول: ومن كرامات سيدي أحمد الرفاعي أن رجلاً - سماه -كان عنده فرأى رجلاً طائراً في الهواء حتى جاء إلى سيدي أحمد الرفاعي، فقال له: أهلاً بوفد المشرق، ثم قال: أريد منك يا سيدي أحمد! أن تعطيني حاجتي، قال: وما هي حاجتك؟ قال: حاجتي في كذا وفي كذا، وبدأ يعدد أصنافاً من الأكل، قال: فأخذ حصاة فحركها فانقلبت كوزاً فيه ماء، ثم نظر إلى السماء فإذا بعض الطيور تطير في السماء فأشار إليها فنزلت مشوية على طبق، ثم بعد ذلك أكل منها حتى شبع! الشاهد هو أنه أكل منها حتى شبع، ثم بعد ذلك طار من حيث جاء هذا الرجل، فلما طار أشار إلى كوب الماء فرده حجراً، ثم أشار إلى هذه الطيور فعادت تطير في السماء كما كانت وكأنها لم تؤكل ولم يحصل لها شيء! وهذا إن ثبت فهو سحر واضح.
وشمس المعارف الكبرى، كتاب معروف من كتب السحر، صاحبه اسمه محمد البوني، والبوني هذا ترجم له النبهاني في كتاب له اسمه جامع كرامات الأولياء