ثم انقرضت الجهمية الأولى، فمن خلفهم؟ خلفهم الأشاعرة، فقد جاء الأشاعرة والماتريدية فوجدوا تراث الجهمية فأخذوه وقرروا أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي فقط، وأن العمل خارج عن دائرة الإيمان، ثم اختلفوا في قول اللسان: هل هو داخل في حقيقة الإيمان أو ليس بداخل في حقيقة الإيمان؟ وأكثرهم يقول: إنه ليس داخلاً في حقيقة الإيمان على أنه ركن، وإنما هو شرط لإجراء أحكام الإسلام الظاهرة، حتى إنه يقول بعضهم: إن الإنسان إذا لم يقل: لا إله إلا الله، يمكن أن يكون ناجياً عند الله، لكن في الدنيا نتعامل معه على أنه غير مسلم، فيقول: إن قول: لا إله إلا الله، ليس شرطاً في حقيقة الإيمان بحيث نعتبر هذا الإنسان مؤمناً عند الله أو ليس بمؤمن، وإنما حقيقة الإيمان عنده هو تصديق القلب، وأما إقرار اللسان فهو شرط لإجراء أحكام الظاهر على الناس بحيث إنه يمكن التمييز بين الكفار وبين المسلمين في الدنيا؛ لأن الأحكام نوعان: أحكام دنيوية، وأحكام أخروية عند الله سبحانه وتعالى، فإقرار اللسان عندهم شرط وليس بركن، وعندهم أن الشرط خارج الماهية، يعني: حقيقة الإيمان نفسه لا يدخل فيه قول اللسان، لكنه شرط خارج عنها، وهذا الشرط لابد منه لإجراء أحكام الظاهر وإن كان قد يكون عند الله عز وجل ناجياً، كما نص عليه كثير منهم، وبهذه الطريقة أصبح الأشاعرة على سنن الجهمية وعلى طريقتهم.
كيف يدافع الأشاعرة إذا قيل لهم: أنتم جهمية في هذا الأمر؟ قالوا: هناك فرق بيننا وبين الجهمية، فإذا قلنا لهم: وما الفرق بينكم وبين الجهمية؟ قالوا: الجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط، وإبليس يعرف الله، ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، وهناك فرق بين التصديق والمعرفة.
لكن إذا جئت تحرر مذهبهم تجد أنه لا فرق بينهم وبين مذهب الجهمية، وإنما هو مذهب واحد؛ لأن التصديق الذي جاء به الأشاعرة ليس فيه قدر زائد على المعرفة، فإن التصديق هو مجرد الإخبار بأن كلام الله صدق، وأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم صدق فقط، وهذا لا شك أنه هو نفسه مجرد معرفة كلام الله ومعرفة كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
وهم يحاولون أن يفرقوا، ويقولون: إننا نحن ننسب الصدق والجهمية لا ينسبون، لكن حقيقة قول جهم عندما قال: إن الإيمان هو المعرفة لا يقصد به مجرد المعرفة حتى مع التكذيب، وإنما كان يقصد المعرفة التي تدل على أن هذا إله وهذا رسول، ولا يمكن لأحد أن يعرف أن هذا إله وهذا رسول ثم يكذبه، لا يمكن هذا حتى من أصحاب الملل الأخرى، لكن قد يكذب أن يكون هذا إله في بداية الأمر، لكن أن يعتقد أنه إله ثم يكذبه هذا لا يوجد في الناس، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وبناءً على هذا نجد أن الأشاعرة والماتريدية لم يقولوا بدخول عمل الجوارح في مسمى الإيمان، ولم يقولوا بدخول عمل القلب في مسمى الإيمان، ولم يقولوا بدخول قول اللسان في مسمى الإيمان، وإنما حصورا الإيمان في مجرد التصديق فقط.