بقي أن نذكر أن بعض أهل البدع قالوا: إن الإسراء حصل بالروح والجسد، وأما المعراج فإنه حصل بالروح فقط؛ وذلك حتى يجمعوا بين العقل وما سمعوه من النصوص، فإنهم يقولون: إنه يمكن للإنسان أن ينتقل في ساعة واحدة من مكة إلى بيت المقدس ثم يعود، وهذا أثبته العلم الحديث؛ حيث ينتقل الإنسان من مكة -مثلاً- إلى بيت المقدس بطائرة ويمكن أن يعود في نفس اليوم، فالعلم الحديث أثبت هذا، قالوا: وأما المعراج الذي يكون فيه اختراق لهذا الفضاء الهائل الكبير فإنه لا يمكن أن يكون بالجسد، وإنما يكون بالروح.
ثم بدءوا يتلمسون بعض الأدلة التي تدل على قولهم، ولا شك أن هذا منهج ضال، ومنهج منحرف؛ لأنه لم يُبنَ بناءً سليماً، لم يُبنَ أصلاً على النص، ولم يبنَ على الدليل الصحيح، وإنما بني على مسألة: هل هذا الأمر يوافق العلم الحديث أو لا يوافقه؟! وحتى النصوص فسروها بغير وجهها الصحيح، فمثلاً: فسر أبو زهرة قول الله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:١١] قال: هذه رؤيا منامية؛ لأنه قال:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:١١]، ورؤية الفؤاد رؤية معنوية، وليست رؤية حسية، ففهم من الآية فهماً باطلاً، فإن الآية:{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم:١١] يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب فؤاده ما رآه بعينه، هذا هو المعنى الصحيح في الآية، يعني: فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى بعينه ما رأى لم يكذب هذه الرؤية التي كانت بعينه، لكنه نسب الرؤية هنا إلى الفؤاد مباشرة.
ولا شك أن هذا استدلال باطل، وكما قلت: إن مرجعه الأساسي هو تقديم العقل على النقل، ولهم قانون كلي في هذا الباب ذكره الرازي في كتابه (أساس التقديس)؛ فإنه ذكر: أن الدليل العقلي إذا عارض الدليل النقلي، فإما أن نأخذ بالدليلين معاً، وهذا جمع بين النقيضين وهو محال، وإما أن نرد الدليلين معاً، وهذا رد للأدلة ومحال أيضاً، وإما أن نأخذ بالدليل الشرعي وهذا فيه إبطال للعقل، والعقل هو أصل النقل، وبناء على هذا قال: لابد أن نأخذ بالعقل وأن نقدمه على النقل! وماذا يعمل بالنقل؟ قال: النقل إما أن نقول: إنه غير صحيح، يعني: إذا كان هذا كذباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن نؤوله على سبيل التورع، هكذا قال، وهكذا نص، قال: يؤوله على سبيل التورع؛ فإن الأصل عندهم العقل.
ولا شك أن هذا إلغاء وطي لبساط الشرعية -والعياذ بالله-، وهذا إلغاء للدين بهذا الأسلوب، فإنه لا يوجد شيء واحد اسمه العقل، وإنما هي عقول عند الناس، والعقل الكلي لا وجود له في الخارج، وإنما له وجود في الذهن، ولا وجود له في الخارج على الحقيقة؛ ولهذا هؤلاء يعارضون العقل ويعارضون الشرع بأهوائهم وآرائهم، ويصورون أهواءهم وآراءهم أنها هي العقل الذي يجب أن يؤول الشرع بناءً عليه، وإلى هذه الدرجة أصبحت قيمة النصوص عند هؤلاء.
مع أنه لو قال قائل لأحدهم: هذا النقل عمن جاء؟ عن الرب سبحانه وتعالى أو عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؟ والله عز وجل هو الذي خلق العقل الذي ترد به هذا النقل، وحينئذ يكون هذا إبطال حتى للعقل نفسه الذي امتدحته حيث إنك قدحت في خالقك خالق هذا العقل، قدحت فيه بهذه الطريقة.
ولهذا مثل هؤلاء لا ينبغي أن يناقشوا إلا بالطريقة الشرعية الصحيحة، فإنه وجد من المنتسبين إلى السنة من ناقش هؤلاء بمناهجهم العقلية فألزموهم فالتزموا، فضلوا عندما التزموا بما ألزموهم به، لكن المنهاج الشرعي الصحيح هو أن نقول: إن العقل خلقه الله سبحانه وتعالى، والشرع أنزله الله عز وجل، ولا يمكن أن يحصل هناك تعارض بين العقل الذي خلقه الله وبين الشرع الذي نزله الله.
ولهذا أي مسألة يكون فيها تعارض بين النقل والعقل إما أن يكون النقل غير صحيح أو فهمه غير صحيح، أو يكون العقل فاسداً، يعني: لا يتصور أبداً حصول التعارض بين النقل والعقل، مع أن خالق العقل هو الله، ومنزل النقل هو الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقول:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}[الملك:١٤] فكيف لا يعلم سبحانه وتعالى من خلق؟! وهنا نحب أن ننبه إلى مسألة مهمة جداً وهي: أن النصوص الشرعية مليئة بالأدلة العقلية، يعني: عندما تقرأ في الآيات القرآنية تجد أنها مليئة بالأدلة العقلية، ولا حاجة لنا لعقول هؤلاء.