للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مرجئة الفقهاء ومذهبهم في الإيمان]

الفرق في هذه المسألة يمكن أن نذكرها كالآتي: أولاً: مرجئة الفقهاء: مرجئة الفقهاء هم فرقة ظهروا في الكوفة، وذلك بعد ظهور الخوارج وتكفيرهم للصحابة رضوان الله عليهم وتكفيرهم لعصاة المسلمين، فعند الخوارج أن الذي يرتكب الزنا كافر، والذي يأكل الربا كافر، والذي يشرب الخمر كافر، ولكن هذا خروج عن السنن والصراط المستقيم، ولأجل هذا ظهرت طائفة من الفقهاء في الكوفة أخرجت العمل عن مسمى الإيمان، وقالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي والإقرار باللسان فقط، فحصروا الإيمان عندهم في التصديق القلبي.

فما هي صورة التصديق القلبي؟ صورة التصديق القلبي هي: أنهم يثبتون أن الله صادق وما أخبر به صدق، يعني: مجرد تصديق بدون إذعان وبدون قبول وبدون رد وبدون أي عمل من الأعمال القلبية الأخرى، وإنما مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر، والمخبر هو الله أو الرسول، والخبر هو ما جاء عن الله أو جاء عن الرسول، فجعلوا الإيمان هو مجرد التصديق القلبي وإقرار اللسان فقط، وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان.

ومرجئة الفقهاء هؤلاء هم من أمثال حماد بن أبي سليمان رحمه الله تعالى، ومن أمثال أبي حنيفة رحمه الله وغيرهم من فقهاء الكوفة الذين كانوا في تلك الفترة، لكن الشيء الذي يميز هؤلاء هو أنهم مع قولهم بأن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان إلا أنهم كانوا يشددون في الالتزام بالعمل وينبهون الناس على ذلك ويكفرون من ترك العمل كله، أي: جنس العمل، يعني: من ترك العمل القلبي والعمل الظاهر يرون أنه كافر، وهذا القول اختلف هل قال به أبو حنيفة رحمه الله أو لم يقل به؟ فيه خلاف كثير، لكن على كل حال ورد في التمهيد لـ ابن عبد البر أن أبا حنيفة رحمه الله استدل عليه بعض الناس بحديث في أن العمل يدخل في مسمى الإيمان فسكت، فقيل له: لماذا لا تجيب؟ قال: كيف أجيب وهو يستدل علي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والمظنون به أن يرجع في مثل هذه المسألة.

وهذا القول الذي هو قول مرجئة الفقهاء لم يبق عليه أحد إلا أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى، وشارح العقيدة الطحاوية ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى، وهذا المذهب انقرض، وقد حاول ابن أبي العز الحنفي أن يقرب بين مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم وبين مذهب مرجئة الفقهاء، واجتهد في ذلك إلا أنه أخطأ في مواضع من شرحه للعقيدة الطحاوية.

والحقيقة أن مذهب مرجئة الفقهاء ليس هو مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم، فإن الذي يرجع -مثلاً- إلى كتاب (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد أو كتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) أو كتاب (الشريعة) للآجري يجد تشنيع السلف على الذين يخرجون العمل من الإيمان، وكان مقصود السلف رضوان الله عليهم بهذا التشنيع هم مرجئة الفقهاء، لأن المرجئة الحقيقيون أول ما بدءوا كانوا على طريقة جهم، وقد كان السلف يكفرون جهماً أصلاً، ولهذا لا داعي بأن يشتغلوا بالرد عليه، وإنما اشتغلوا بالرد على مرجئة الفقهاء؛ لأنهم هم أقرب إلى العلم، وتأثيرهم في الناس أكثر، ولهذا تكلموا في هذه المسألة وأطالوا فيها، ويمكن لمن أراد مراجعة (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد أن ينظر إلى مدى إنكار السلف الصالح رضوان الله عليهم لهذه البدعة التي ظهر بها مرجئة الفقهاء.

<<  <  ج: ص:  >  >>