[الرد على المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب]
وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله).
هذا فيه الرد على المرجئة، والمرجئة على نوعين: النوع الأول: مرجئة الجهمية الأوائل، وهؤلاء هم الذين كانوا يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذه الفرقة انقرضت، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان يقول: لا يعرف بهذه الكلمة قائل، يعني: لا يعرف لها قائل محدد، وإن أثرت عن الجهمية، يعني: أثرت عن الجهمية بشكل عام، لكن لا يعرف من قائلها على التحديد.
وهذا القول هو الذي من أجله كفر السلف الصالح الجهمية وقالوا: إنهم كفار؛ لأنهم قالوا: لا يضر مع الإيمان - الذي هو التصديق عندهم - معصية، فكل المعاصي التي يعملها الإنسان ما دام أنه يصدق ولم يكذب فهي لا تضره أبداً، وإنما يدخل الجنة بدون حساب ولا عذاب، وحينئذٍ أصبحت الجنة عندهم يدخلها كل العصاة، وكل من انتسب إلى التصديق يدخل الجنة، ولا يدخل النار إلا من كان مكذباً، وهذا يدل على أن كثيراً من الكفار سيدخلون الجنة بناءً على هذا؛ لأن الكفار ليسوا كلهم مكذبين، بل بعضهم مصدق، كما قال الله عز وجل عن فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:١٤] يعني: جحدوا بسبب الظلم والعلو، ولم يجحدوا بسبب التكذيب الداخلي، فهم كانوا مصدقين، لكنهم جحدوا ظلماً وعلواً، وكما هو حال المشركين أيضاً؛ فإنهم كانوا يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، كما قال الله عز وجل عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:٢٥] وحينئذٍ سيدخل جماعات أيضاً من المشركين الجنة على مذهب الجهمية، ولهذا كفرهم السلف رضوان الله عليهم، وسبق أن نقلت قول عبد الله بن المبارك رحمه الله فيهم.
النوع الثاني من المرجئة: مرجئة الأشاعرة الذين يقولون: إن الإنسان إذا أذنب الذنب فإنه يعاقب به، لكن العمل ليس داخلاً في الإيمان، فلا يترتب على تركه كفر، وهذا القول هو قول مرجئة الأشاعرة، ومرجئة الأشاعرة عندما قالوا: إن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ما قصدوا أن أصحاب الذنوب لا يعذبون، وإنما أرادوا أن العمل ليس من حقيقة الإيمان الذي يترتب على تركه كفر، فعندهم مثلاً: لو أن إنسان زنى يعذب، ولو إنسان شرب الخمر يعذب، ولو إنسان أكل الربا يعذب.
لكن الخلاف الذي بينهم وبين أهل السنة هو في مسألة لو أن أحداً ترك العمل كله فلم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يزك، كما أنه ترك أعمال القلب جميعاً، مثل الخوف والرجاء ونحو ذلك، فهم لا يعتبرون هذا كافراً وإنما يعتبرونه عاصياً، وكذلك الحال فيمن يطوف حول القبور وينذر ويذبح لها ويستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ونحو ذلك من هذه المكفرات، لا يعتبرون ذلك كفراً، وإنما يعتبرونه من الذنوب والمعاصي.
بل إن بعضهم مثل صاحب كتاب (مصباح الظلام) الذي يقال له: الحداد قال: إن الأنبياء والصالحين لهم احترام في نفوسنا، والمبتدع محمد بن عبد الوهاب - كما يزعم - أظهر أن الاستغاثة بهؤلاء الصالحين شرك، فحينئذٍ - على قوله - يلزم أهل العلم والصالحين أن يستغيثوا بالأنبياء وأن يستغيثوا بالصالحين؛ حتى يبقوا للصالحين كرامتهم! انظروا كيف أوجب الشرك بهذه الطريقة! أوجب الشرك لأنه يعتقد أن الاستغاثة بهم إكرامٌ لهم وإكرامهم واجب، وحينئذٍ يجب الاستغاثة بهم، في الوقت الذي يرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه يقول: هذا شرك.
فإلى هذه الدرجة حصل الخلاف والصدام بين أهل السنة من جهة وبين الأشاعرة والصوفية من جهة أخرى.
ولأجل هذا فالخلاف ليس بيسير ولا بسطحي، ولا يصح أن يقول أحد: نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضٌ فيما اختلفنا فيه، إذ كيف نعذر مثل هذا الذي اختلفنا فيه؟ فعندما يأتي شخص من هؤلاء ويجمع عشرات الأشخاص ويطوف بهم حول القبور، ويطلب منهم أن يستغيثوا بالله، ويطلب منهم أن يذبحوا لغير الله ويذبحوا للأولياء ويقول: هذا من إكرامهم وهذا واجب، في الوقت الذي أنت ترى أن هذا شرك، فكيف تقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه؟ لا يمكن أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه في مثل هذه المسائل، لكن الذي يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه هي المسائل الفقهية التي لا يترتب على الخلاف فيها بدعة أو شرك أو نحو ذلك، فالمسائل الفقهية التي تحتمل الاجتهاد وقد اختلف فيها الصحابة هي التي يعذر بعضنا بعضاًَ فيها، لكن مسائل الاعتقاد لا يعذر بعضنا بعضاً فيها.
فكيف يمكن حصول العذر في شخص هذا حاله وهذه طريقته؟ وبناءً على هذا نعلم أن قول الشيخ: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)، يعني به: الرد على مرجئة الجهمية الأوائل، لكنه لم يرد على مرجئة الفقهاء ومرجئة الأشاعرة.
وأئمة الأشاعرة المتقدمين مثل الشهرستاني ومثل البغدادي في (الفرق بين الفرق) وغيرهما يذكرون المرجئة و