ويمكن أن ننقل هنا أثراً لـ أبي ثور رحمه الفقيه المشهور ناقش فيه المرجئة مناقشة لطيفة جداً ورائعة، قال رحمه الله: فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان -يعني: المرجئة- فيقال لهم: ما أراد الله عز وجل من العباد إذ قال لهم: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) إلا الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ ويعتقد المرجئة أن مجرد الإقرار بالصلاة والصيام والحج والزكاة إيمان حتى ولو لم يعمل منها أي شيء، وأن الإقرار بالخوف من الله ونحو ذلك إيمان حتى ولو لم يعمل أي شيء، ويمكن أن نبطل دليلهم هذا بقصة الحبرين اللذين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيا ما عنده وعرفا أنه رسول الله فقالا: إنك رسول الله، أو قالا: نشهد أنك رسول الله، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم:(وما يمنعكما أن تتبعاني؟) قالا: تقتلنا يهود، فقوله صلى الله عليه وسلم:(ما يمنعكما أن تتبعاني؟) دليل على أنه لا يكفي مجرد الشهادة، بل لابد من عمل ولابد من اتباع؛ ولهذا لم تنقلهم هذه الشهادة إلى الإسلام، بل بقوا على اليهودية وعلى حالهم كما كانوا.
ويدل على هذا أيضاً قصة هرقل التي رواها البخاري في كتاب الوحي من حديث ابن عباس أنه لما سأل أبا سفيان وأجابه أبو سفيان في سؤالات طويلة يمكن مراجعتها في كتاب بدء الوحي في أول صحيح البخاري، وذلك عندما جمع الروم في دسكرة واحدة قال لهم: هل لكم في النجاح؟ هل لكم في الفلاح؟ إنه رسول الله، يعني: عرف أنه رسول الله وأيقن في نفسه أنه رسول الله، فحاص الروم كما تحيص الحمر، واتجهوا إلى الأبواب ووجدوها موصدة مغلقة، فقال لما يئس من إسلامهم: ردوهم علي، ولما صار عنده تعارض بين الإسلام أو الملك قدم الملك ورجحه على الإسلام، وترجيحه في ذلك فاسد.
المهم أنه لما يئس من الإسلام قال: ردوهم علي، ثم قال لهم: إنما كنت أختبر التزامكم بدينكم! وقال للقرشيين: والله! إنه رسول الله، وإنه سيملك موضع قدمي هاتين، حتى إنه قال أحد هؤلاء القرشيين: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: لقد عظم حتى صارت ملوك الروم تخافه، فاستغرب من ذلك، وهذا يدل على أن الرجل كان موقناً، لكن ما نفعه يقينه ما دام أنه لم يعمل بقلبه وبجوارحه.
قال أبو ثور: فإن قالت -يعني: هذه الطائفة-: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل فقد كفرت عند أهل العلم.
يعني: فقد كفر عند أهل العلم من قال: إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا وأن يؤتوا الزكاة.
قال: فإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل، قيل: فإذا أراد منهم الأمرين جميعاً، لم زعمتم أنه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعاً؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر الله ولا أقر به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئاً أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق؟ وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر إذا عمل ولم يقر مؤمناً، ولا فرق بين ذلك، فإن احتج فقال: لو أن رجلاً أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أيكون مؤمناً بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت العمل؟ قيل له: إنما نطلق له الاسم بتصديقه وبقوله أنه يعمله في وقته إذا جاء، وليس عليه في هذا الوقت إلا الإقرار بجميع ما يكون به مؤمناً، ولو قال: أقر ولا أعمل، لم نطلق له اسم الإيمان.
يعني: اعترضوا بشبهة وقالوا: إذا قال الإنسان: أنا أقر لكنني لا أعمل، هل يكون مؤمناً؟ وذكر هذه الشبهة أبو عبيد القاسم بن سلام في (الإيمان) ورد عليها؛ لأنهم يحتجون ويقولون: العمل ليس من الإيمان، والدليل على أن العمل ليس من الإيمان أن الصحابة رضوان الله عليهم كانت هناك فروض وأعمال كثيرة ما كانوا يعملونها في المرحلة المكية، وبناءً على هذا يصبح العمل ليس من الإيمان، وهذا قول فاسد، ودليل فساده هو: أن الصحابة عندما أقروا بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقروا بالتوحيد لله عز وجل أقروا بما يأتي عنهما من عمل في وقته إذا جاء، فلم يتضمن هذا الإقرار الإباء والامتناع عن العمل، وإنما تضمن الخضوع للعمل إذا أمروا به في أي وقت من الأوقات، وقد أمروا بعد ذلك فالتزموا، فهذا لاشك أنه قول فاسد من أقوال المرجئة، وهذا رواه اللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وذكره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.