للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[أنواع الشفاعة التي أثبتها الله سبحانه وتعالى]

والشفاعة التي أثبتها الله سبحانه وتعالى أنواع: النوع الأول: الشفاعة العظمى لأهل الموقف، وهي المقام المحمود الذي يقول الله سبحانه وتعالى فيه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:٧٩]، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس لتدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم موسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع ليقضي بين الخلق أو ليقضى بين الخلق، فيومئذٍ يبعثه -يعني: الله عز وجل- مقاماً يحمده فيه أهل الجمع كلهم).

أما حديث أبي هريرة الطويل فقد ذكر الشارح ابن أبي العز الحنفي رحمه الله أن سياق الحديث في بدايته يدل على أنه في الموقف، فإنهم يأتون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى يطلبون أن يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، وأن يخرجهم من هذا الموقف، لكن في ختام الحديث ليس فيه شيء من ذلك، بل فيه أنه بعد أن يسجد ويقول الله عز وجل له: (ارفع رأسك، سل تعط واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي، يا رب! أمتي أمتي، يا رب! أمتي أمتي، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من العذاب من الباب الأيمن من أبواب الجنة)، فليس فيه أنه شفع لهم في الموقف، مع أن أهل العلم يستدلون بهذا الحديث في مسألة الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول: والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، ولا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، وهذا الكلام هو نص كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية.

والصحيح أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على الشفاعة العظمى، وقد استدل به ابن خزيمة في كتاب (التوحيد) على هذا الأمر، كما استدل به القرطبي في كتابه (التذكرة) على الشفاعة العظمى، ووجه الدلالة في هذه المسألة هي أن الحديث اشتمل في بدايته على طلب الشفاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في حديث أبي هريرة -: (فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟) يعني: فيخرجكم من هذا الموقف، وليس في نهاية الحديث أنه شفع لهم للخروج من الموقف، لكن فيه أن الله عز وجل يقول: (أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة) وفيه بعد ذلك حصول الشفاعة لأهل الكبائر، وهذا يدل على أنهم حوسبوا، فيبدو أن في الحديث اختصاراً، وأن الصحيح هو أن سياق الحديث بأكمله أنه بعد أن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم طلب الشفاعة من ربه فشفع للناس، فنزل سبحانه وتعالى فحاسب الناس، ثم شفع النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى لدخول من لا حساب عليه ولا عذاب الجنة.

وحينئذٍ فلا حاجة للقول بما قال به الشارح من أن الدليل هو حديث الصور؛ فإن حديث الصور حديث طويل ساقه الشارح بأكمله، وفيه: فيقول سبحانه وتعالى: (شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم، قال: فأرجع فأقف مع الناس) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر انشقاق السماوات وتنزل الملائكة بالغمام، ثم يجيء الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء.

وحديث الصور لا يكون مثل حديث أبي هريرة، فإن حديث أبي هريرة أقوى منه، فحديث أبي هريرة في الصحيحين وحديث الصور تكلم عليه العلماء وقالوا: إن فيه ضعفاً، وفي إسناده إسماعيل بن رافع المدني وهو قاص أهل المدينة، ويبدو أنه ركب الحديث من أحاديث مجموعة وجعلها في سياق واحد، ولهذا ضعف هذا الحديث أهل العلم، وذكروا أن ما وجد فيه من فقرات يشهد لها أحاديث أخرى في الصحيحين أو في غيرها مما ثبت إسناده فهي صحيحة، ووجد فيه ألفاظ منكرة ولا تكون ثابتة، ووجد فيه أشياء لا شواهد لها، وهذه لا تكون صحيحة؛ لضعف إسماعيل بن رافع القاص الذي سبق ذكره.

النوع الثاني من الشفاعة: الشفاعة في دخول أهل الجنة فيها، وهذه الشفاعة ثابتة في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول شفيع في الجنة).

وكذلك روى الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد من قبلك).

وهاتان الشفاعتان -الشفاعة الأولى والشفاعة الثانية- خاصتان بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد.

النوع الثالث من أنواع الشفاعة: الشفاعة بتخفيف العذاب عمن يستحق، وهذه الشفاعة هي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في تخ

<<  <  ج: ص:  >  >>