يقول الأستاذ سيد- رحمه الله-: «خذ سورة من السور القصيرة التي ربما يحسب البعض أنها شبيهة بسجع الكهان ... خذ سورة الفلق. فما الجو المراد إطلاقه فيها؟ إنه جو التعويذة، بما فيه من خفاء وهيمنة وغموض وإبهام، فاسمع:
فما الفلق الذي يستعيذ بربه؟ نختار من معانيه الكثيرة معنى الفجر ... لأنه أنسب في الاستعاذة به من ظلام سيأتي.
يعوذ برب الفجر «من شر ما خلق» هكذا بالتنكير، وب «ما» الموصولة الشاملة. وفي هذا التنكير يتحقق الغموض والظلام المعنوي في العموم، و «من شر غاسق إذا وقب»: الليل حين يدخل ظلامه إلى كل شيء ويمسي مرهوبا مخوفا.
«ومن شر النفاثات في العقد» وجو النفث في العقد من الساحرات والكواهن كله رهبة وخفاء وظلام، بل هنّ لا ينفثن غالبا إلا في الظلام. «ومن شر حاسد إذا حسد» والحسد انفعال باطني مطمور في ظلام النفس، غامض كذلك مرهوب.
الجو كله ظلام ورهبة، وخفاء وغموض وهو يستعيذ من هذا الظلام بالله، والله رب كل شيء، فلم خصصه هنا «برب الفلق»؟ لينسجم مع جو الصورة كلها، ويشترك فيه. ولقد كان من المتبادر أن يعوذ من الظلام بربّ النور، ولكن الذهن هنا ليس المحكم، إنما المحكّم هو حاسة التصوير الدقيقة، فالنور يكشف الغموض المرهوب، ولا يتسق مع جو الغسق والنفث في العقد، ولا مع جو الحسد، و «الفلق» يؤدي معنى النور من الوجهة الذهنية، ثم يتسق مع الجو العام من الوجهة التصويرية، وهو مرحلة قبل سطوع النور، تجمع بين النور والظلمة، ولها جوها الغامض المسحور.