للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الملاحظة الثانية: أن حركة التفسير منذ عصر التدوين، أو منذ أن تأصّل الخلاف بين المتكلّمين وأصحاب الفرق، كانت صورة عكست نقاط الخلاف، وكانت في بعض الأحيان استجابة لها، أو محاولة لتأكيدها والانتصار لها، كما يلاحظ ذلك في كتابي الأشعري والماتريدي، وفي كتاب الرازي الذي مثّل من وجه آخر اهتمامات العصر الطبعيّة والفلسفية على منهج لا يمكن وصفه بالأصالة والوحدة، وهذا فضلا عن تفاسير المعتزلة الكثيرة التي انطلقوا فيها من مجموعة من المسلّمات التي أسموها أصولا، وحاولوا حمل الآيات عليها بتأويل قريب مرة، وبعيد مرات أخرى!

والواقع أن هذه الصورة تمكننا من تلخيص ملاحظتنا الثانية هذه بأن معظم المفسرين على اختلاف نزعاتهم الكلامية والمذهبية دخلوا إلى النص القرآني- بصورة عامة- بمقرر فكري أو موقف سابق؛ حتى صار ميزان المحكم والمتشابه- على سبيل المثال- متأرجحا بين الآيات الموافقة من حيث الظاهر للمذهب أو المخالفة له (١) ... ومن هنا مهّد المتكلمون جميعا الطريق أمام التأويل.

ولكن علينا أن نذكر هنا، بكل تأكيد، أن هذا المقرر الفكري المسبق لم يكن شيئا آخر خارجا عن القرآن والحديث، من موروثات أو آثار مترجمة أو منقولة كما يزعم بعض المستشرقين، ولكنه موقف اجتهاديّ نابع من طبيعة اللغة العربية وطبيعة اختلاف الفكر والنظر العقلي، كما يذكر الإمام الغزالي- رحمه الله-. وإذا كان لنا هنا من ملاحظة نعلّل بها عدم اختلاف الصحابة والتابعين في التفسير كما فعل من جاء بعدهم، أو نعلّل بها لماذا كان اختلافهم اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ؛ فإننا نقول: إن مرد ذلك إلى مزيد معرفة وعلم عند الصحابة- رضوان الله عليهم- نظرا لمعاصرتهم للتنزيل، ومشاهدتهم لأحواله، وإدراكهم لطبيعة نصوص القرآن


(١) راجع كتابنا: متشابه القرآن: دراسة موضوعية.

<<  <   >  >>