٥ - وأخيرا، لعل من أهم حكم تنجيم القرآن: الدلالة على إعجازه وإثبات مصدره.
ففي نزول القرآن خلال هذه المدة الطويلة، وكلما نزلت آية أو آيات قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«ضعوا هذه الآيات في موضع كذا من سورة كذا» وربما نزلت الآيات التي توضع في آخر السورة قبل الآيات التي توضع في أولها أو مقدماتها، وربما لم يكتمل بناء بعض السور- المفتوحة- إلا خلال سنوات ... ثم يكون القرآن الكريم بعد ذلك متسقا هذا الاتساق المعجز، منسّق الآيات والسور، محكم السرد، دقيق السبك، قوي الأسلوب ... إن في ذلك جميعه ما يشير بوضوح إلى مصدر هذا الكتاب الكريم وأنه تنزيل من حكيم حميد، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)[سورة النساء، الآية ٨٢]. لأن الرسول الكريم الذي كان يأمرهم بوضع الآيات عند ما تنزل في موضع كذا من سورة كذا بشر لا يدري ما ستجيء به الأيام، وكيف سيتم بناء هذه السور ومتى يتم في المستقبل؟
والاختلاف المشار إليه في الآية الكريمة يكون من وجهين رئيسيين:
الأول: من حيث النظم والأسلوب والبيان الذي لم يختلف في القرآن أو يتخلف في موطن من المواطن، وذلك على طريقة الأدباء في الاختلاف أيا كان حظهم من التفوق، ومع تفرغهم للعمل الأدبي الواحد في زمن معين أو فترات متقاربة لا يمكن أن تصل إلى ربع قرن!! ومع التقديم والتأخير، واختلاف المناسبات والأحوال!! التي تم فيها وعليها نزول القرآن الكريم. وهذا كما أشرنا دليل الإعجاز.
أما الاختلاف الثاني: فهو اختلاف المعاني والمضامين، فإذا لم تختلف هذه المعاني عند أحد طيلة حياته، فهل يمكن أن تتلاءم أو تتكاتف على أداء طريقة واحدة أو معنى منسجم عند ما يضمّ الكلام بعضه إلى بعض في سنوات طوال؟