يَسْئَلُونَكَ ... أدركنا أهمية ذلك الوصف في تهيئة النفوس للتحريم، لأن الأمر صار موضع سؤال المجتمع وحديثه.
ثم نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [سورة النساء، الآية ٤٣] فحرّمت هذه الآية عليهم أن يصلّوا وهم في حالة السكر، فكأنها وقتت تحريم شرب الخمر بوقت ليس بالقصير، لأن أوقات الصلاة متقاربة لا يذهب خلالها أثر السكر، فامتنعوا عن شربها سحابة النهار، حتى إذا صلوا العشاء الآخر قارف الخمر من أراد، وكأنهم في هذه المرحلة الثانية أعطوا الفرصة لتقوية العزيمة والإرادة على الكف والمنع المطلق- في الوقت الذي كان فيه الجانب التربوي الإيجابي يبنى باستمرار كما قلنا-.
ثم نزل أخيرا قول الله تبارك وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)[سورة المائدة، الآيتان ٩٠ - ٩١] .. فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ قالوا: يا رب انتهينا، وتركوا الخمر، وقاموا إلى ما في دورهم منها فأهرقوه في طرقات المدينة ....
من أراد أن يقف على أثر هذا التدرج في التشريع، أو هذه الحكمة من فوائد نزول القرآن منجما بوجه عام، فليقارن فعل المجتمع الإسلامي هذا بفعل المجتمع الأمريكي يوم صدر عندهم «قانون المنع» المشهور، والذي رد عليه الناس بمضاعفة الشرب، ومن الأنواع الرديئة، أضعافا مضاعفة .. روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عائشة قالت:«إنما نزل أوّل ما نزل منه سورة من المفصّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أوّل شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا. ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا»(١).